ليت القارئ الكريم يعرف صعوبة هذا السطر الذي يقرأه الآن! كل كُتّاب الدنيا يحملون هم المطلع، وقلق السطر الأول!
كم من فكرة استوت في ذهن صاحبها، ثم أصبحت في منزلة بين المنزلتين، فلا هي هبطت على الورق، ولا استقرت في ذهن صاحبها، فلا الكاتب ارتاح، ولا الورقة نامت على سواد يليق ببياضها!
مما يعزيني في ألمي، أني لا أتفرد بالشكوى الآنفة، إذ استوى في عذاب السطر الأول المتقدمون والمتأخرون.
استسلم فريق من المبدعين لصعوبة صناعة دهشة البدايات، وعلى رأس هؤلاء مولانا زهير بن أبي سلمى (ت 609 م)، القائل:
وما أرانا نقول إلا معاراً
أو معاداً من لفظنا مكرورا
ولأن بلوى التجديد في المطالع، لم تقتصر على السادة الشعراء، فحسب، بل امتدت لكبار كتّاب النثر، وسادة المقالة، والرواية، قال ابن عبد ربه الأندلسي، في كتابه التليد «العقد الفريد»: «أكثر ما يجتلبه الشعراء، ويتصرف فيه البلغاء، فإنما يجري فيه الأخير على سنن الأول، وقل ما يأتي لهم معنى لم يسبق إليه أحد، إما في منظوم وإما في منثور، لأن الكلام بعضه من بعض».
إن شكوى تفرد المطلع لجذب المتلقي، وإغرائه لمتابعة القراءة بشوق، هي مما استوت فيه الأحوال، والحمد لمن لا يحمد على مكروه سواه!
ها هو غابرييل غارسيا ماركيز يصرخ بأنه: «لا يحتاج إلا لتلك الجملة – يقصد الافتتاحية – لكي ينساب كل شيء». أحد أشهر شعراء اللغة الألمانية، راينر ريلكه، (ت 1926)، في الجهة الأخرى من جحيم السطر الأول، يخطب في رسالة شعرية للشباب، قبل أكثر من مائة عام: «لا يوجد أحد ينصحك ولا أحد ليساعدك»، ثم يستدرك بلطف: «هناك طريقة واحدة فقط، وهي أن تستطيع مساعدة نفسك». يا لك من ناصح عظيم، أيها البوهيمي الرومانسي النمساوي!
عذابات السطر الأول تليق بالتفاتة تفضى لهميم بجمعها، علّ ذلك يخفف من ألمنا وشكوانا.
عرّف الخطيب القزويني، حسن الابتداء – بلوى السطر الأول بلغة المقالة – تعريفاً عجيباً، فقال: «وحسن الابتداء، أو براعة المطلع: هو أن يجعل الكلام رقيقاً سهلاً، واضح المعاني، مستقلاً عما بعده في مناسبة المقام، بحيث يجذب السامع إلى الإصغاء بكُليته، لأنه أول ما يقرع السمع، وبه يُعرف ما عنده». أما أبو علي ابن رشيق القيرواني، فقال: «إن حسن الافتتاح، داعية الانشراح، ومطية النجاح، وتزداد براعة المطلع حسناً، إذا دلّت على المقصود بإشارة لطيفة، وتسمى براعة استهلال إذا أتى الناظم أو الناثر، في ابتداء كلامه، بما يدل على مقصوده منه، بالإشارة لا بالتصريح». المطلع – الذي هو أول شيء – مأخوذ من الحياة، مرحول إلى الأدب، إذ يشبّهه البعض بنظافة اليد، التي تمتد للمصافحة، التي بها يبدأ كل حوار وينتهي كل خصام. ولا يقدم العقلاء أقلهم حكمة، حين يقصدون غيرهم في حاجة أو وصل، ففي الاستهلال، عادات اجتماعية، ودينية، لا تخفى على عاقل، ولذا كانت البسملة فاتحة كتاب الله، بها يتقرب العبد لربه، ويرجو الترقي في درجات الجنان.
والاستهلال – كما يقول العارفون – هو لحظة الإشراق والتنوير… هل ثمة أجمل من أن يبدأ شاعر قصيدة كما فعل أبو تمام، بقوله:
لا أنتِ أنتِ ولا الديارُ ديارُ
خفَّ الهوى وتولتِ الأوطارُ
ومن جميل المطالع قول أبي العلاء المعري:
يا ساهِرَ البَرْقِ أيقِظْ راقِدَ السَّمُرِ
لعَلّ بالجِزْعِ أعواناً على السّهَرِ
وقول عمر بن الفارض:
ما بَيْنَ مُعْتَركِ الأحداقِ والمُهَجِ
أنا القَتِيلُ بلا إثمٍ ولا حَرَجِ
وأجمل بمطلع البحتري، حين قال:
بِودي لو يهوى العذول ويعشق
ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق
وما أرق استهلال جميل بثينة، إذ يقول:
ألا أيها النوّام ويحكم هُبُوا أُسائِلكم:
هل يقتلُ الرجل الحبُّ؟
ربما خفف من ألم الشاكين من بلوى المطالع، معرفتهم أن الفرنسي جوستاف فلوبير، لم يستطع كتابة السطر الأول من روايته «بوفار وبيكوشيه»، إلا بعد محاولات استمرت طوال فترة ما بعد ظهيرة كاملة، حافلة بالعذاب.
وقيل إن فلوبير قرأ 1500 كتاب، استعداداً لكتابة ذلك السطر المرعب.
ليس فلوبير وحيداً، فهي عادة شهيرة أن يقرأ الكتّاب كثيراً، قبل الجرأة على ارتكاب كتابة السطر الأول، وتعليل ذلك عجيب، غريب، كثير، لكن من أجمله ما قاله الفيلسوف والمنظّر الأدبي الفرنسي جان فرنسوا ليوتارد، في كتابه «الاختلافي: عبارات متنازعة»: «لتكون عبارة ما هي الأخيرة في النص، فإن هناك حاجة لعبارة قبلها لتعلن عنها، ثم لا تصبح العبارة الأولى فعلياً آخر عبارة».
إن عجز المبدعين وشكواهم من صعوبة المطالع، وتعثر الاستهلال، تنهار أمام حُسن مطالع أبي الطيب المتنبي، تلك التي تنم عن عبقرية تهزم رعب السطر الأول… أليس القائل في مطلعٍ له:
أَتُراها لِكَثرَة العُشّاقِ
تَحسَبُ الدَمعَ خِلقَة في المَآقي
وهل يحجم قارئ عن إتمام قصيدة المتنبي، يكون هذا مطلعها:
المجدُ عوفي إذ عُوفيتَ والكرمُ
وزالَ عنكَ إلى أعدائِكَ الأَلمُ
وإذا ادلهمت عليك خطوب الحزن، فانزح إلى حيث الجمال والحكمة، في مطلع آخر لأبي الطيب:
الرأي قبلَ شجاعة الشُّجعانِ
هو أولٌ وهي المحلُّ الثاني
لقد سلم خصوم المتنبي ببراعة استهلاله، قبل محبيه، فهو صاحب «واحر قلباه»، و«لكل امرئ من دهره ما تعودا»، وقائل: «حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا»، ومبدع «لا تعذل المشتاق»، والمتفنن بقوله: «عدوك مذموم بكل لسان».
ولا أجد بعيداً عن أزمة المطالع، ورعب السطر الأول (بحسب تعبير المترجم السعودي المبدع د. حمد العيسى)، ما بات مسلّماً به في العصر الحديث، من أهمية الانطباع الأول، في الحكم على الأشياء والناس.
مؤلف الكتاب الشهير «طرفة عين» (Blink)، مالكولم غلادويل، أكد وفقاً لدراسات عديدة، أن الانطباعات الأولى دقيقة إلى حد كبير، وتؤكد الأيام صحتها. وهو يؤيد نظرية يطلق عليها اسم «التشريح الرقيق» أو (thin – slicing)، التي تقول إننا غالباً ما ننجح في وضع تقييم دقيق لأي شخص نلتقيه اعتماداً على معرفته لبضع ثوانٍ فقط. وعن ذلك يقول غلادويل: «إنه جزء أساسي من معنى أن تكون إنساناً». ويضيف كما في استعراض مجلة «القافلة» عدد ديسمبر (كانون الأول) 2011»: «نحن نقوم بالتشريح الدقيق كلما نلتقي شخصاً جديداً، أو نحاول أن نفهم شيئاً ما بسرعة أو نواجه وضعاً جديداً، لأن الاهتمام بتفاصيل الشرائح الدقيقة، وفي كثير من المواقف، وفي فترة قد لا تتعدّى الثانية أو الثانيتين، يمكنه أن يخبرنا الكثير». ويقدِم غلادويل في كتابه أمثلة على التشريح الرقيق، مثل القادة العسكريين العظماء الذين يمتلكون النظرة الثاقبة، أو قوة النظرة الأولى، ومن أبرزهم نابليون بونابارت، وهي النظرة التي تمكنهم من فهم ساحة المعركة على الفور. كما أن الطلاب غالباً ما يصيبون في التنبؤ بمن سيكون معلماً جيداً لهم بمجرد التقائه لثوانٍ قليلة.
وبين رعب السطر الأول لدى المبدعين، وصواب الانطباعات الأولية وخطأها، ندعو الله أن يعافينا وإياكم من بلوى المطالع، وتعنت البدايات… وأن ييسر البدايات والنهايات، وما بينها.
جميع الحقوق محفوظة 2019