من المدينةِ المُنورةِ، نَخِيلِها وخُضرَةِ أنحائِها، حَرِها وحَرَّاتِها، ابتَدَرَ الارتِحالَ، وهناك؛ صاغَتهُ الحَرّتانِ، صلابةً لا تعرف اللِّينَ، وتَفَتَحَت في أَكمامِه فُتُوةُ النَعَناع، ونوّارَاتُ الدوش والحبق، فَاختالَ في خُطَاهُ، حيثُ تَمْرُ المَواهِبُ، التي ذاقت مِن نُضُوجِهِ، كما فَعَلَت دُرُوبُ «العنبريةِ»، وأَزِقَةُ «العوالي»، ومُنحَنَياتُ «الأَعمِدَة».
كَأَنَّ طيبةَ الطيبةَ، قد خَصَّتهُ بِالنصيبِ الأَوفَرِ، من كَرَمِ ظِلالِها، فَبَثّتِ في دِمَائهِ طَاقةَ الدَمَاثَةِ، لَيكُونَ مثالاً، لرُوحِ المَدِينِيِّ في أبهى تَجَلِيَاتِهَ…
تَعْرِفُهُ مُرَاوَغَةُ العَقَباتِ، ويَشهدُ له التماسُ نموذجِ الفرادةِ، في كُلِ سِجِلِ إِنجَازٍ مَمْهُورٍ باسمِ… محمد التونسي.
مُنذُ قَفَزتِه الأُولى، احتَضَنَ الإشكَالَ، وشَاغَبَ الطُموحَ، فَغَلبَ أحدُهُما الآخر، في سِجالٍ لم ينزل بهِ عن مصافِ الكِباَر، الذين أَتقنوا اللعِبَ بِشرفٍ… فلا غَرْوَ، أنهُ انحازَ إلى تحريضِ زُملائه -كما يحلو له أن يُسَمّي مَرؤوسيه-، على المُشَاَكَسَة، حِينَ كان مُديراً لقناةِ «الإخباريةَ»، ليُعَززَ في نُفُوسِهم قُوَةَ المُوُاجهَة، فالمهمةُ تستدَعي خلقَ انسجامٍ حقيقي مع التوجه العام، وفقَ التَحَدياتِ الماثلةِ، أماَمَ صِناعةِ الإعلام المرئيّ، تلك المُهمّةَ التي أُسندت إِدارتُها، إلى رجلٍ طويلُ الباعِ في الصِحافةِ، قَوَيُّ الِذراَعِ في الإعلامِ.
صحفيٌ تفضحهُ آثارهُ
في فلسفته؛ يتنافى حُبُّ الظهور مع النُجومِيّة، لأَنَ الأهميةَ بنظره، للمُنتَج، لا لِصَانِعِهِ! فعُرِفَ في آثارِهِ الجّمَةَ، أكثَرَ من شخصَيَتهِ، التي تَكادُ تتَلَفَعُ بغُمُوضٍ، يستثيرُ الفُضُولَ… وحينَ يفتحُ النافذةَ برهةً، يُطِلُ دُخانٌ كثيفٌ، يَشِي عن عملٍ ضخمٍ، يتِمُ في مكانٍ ما…
منذ زمنٍ بعيدٍ، امتطى صهوةَ الصحافةِ، فغادرَ المدينةَ المنورةَ إلى الرياض، للدراسة ِالجامعيةِ، وانخَرَط في جريدة (الجزيرة)، وهو يافُع، لم يجاوز السبعة عشَر ربيعاً. يقول: «منذ التحقت بـ(الجزيرة)، لم أشعر بالغربة، ولا خامرني إحساس مناطقي. كان الجميع يُعاملني واحداً من الفريق، ولم أعتبر نفسي لحظةً غير ذلك».
وفي ريَعَانِ الشبابِ، بدأ يصنعُ مُنتَجاً مُختلفاً، فكتَب دراسةً بحثيةً، عنوانها: «وكالة الأنباء السعودية… الطريق إلى مؤسسة عامةَ»، وهو مشروعُ تخرُجِهِ من قسم الإعلام بجامعة الملك سعود. بحثُ الطالبِ الجامعيِ، صار حديثُ النُخبِ الإعلاميةِ، واقتَحَمَ عُشَّ الدبابير، الرافض فكرةَ البحثِ أصلاً، فرفضَ صاحبَ الفكرةٍ معها!
لَكِنّ الأفكَارَ الخَلّاقَةَ، لا تُعدمُ مدافعينَ عنها، إذ قدّمها صاحبنا التونسي، في أطروحةٍ مُحكمة النَسّجِ، وهكذا… استَقَرّت الفِكرةُ في حَيِّز التطبيقِ، وانفتحَ الإعلامُ السعودي، على آفاقٍ أكثرَ رحابةَ…
في أواخر السبعينيات الميلادية، أصبح محمد فرج التونسي، مُعيداً في شُعبة الصحافة، بجامعة الملك سعود، التي حصل منها على بكالوريوس الصحافة والإعلام، في 1978.
ثم في مدينة أوثيس، هَبَطَت به طائرةُ الطُموح، مُبتعثاً في واحدةٍ من أكبرِ وأعرقِ جامعاتِ الولايات المتحدة، أوهايو، وهِي جامعةٌ حكوميةٌ بحثيةٌ كبرى. وهُنَاك تَسَلّحَ بتأصيلٍ معرفّيٍ متين في المجال، وأنجز دراساتٍ عِدّة، منها: مشاركةٌ في إعداد بحث حول «تطبيق فنيات الإعلام لتعزيز التسويق»، وقَدَمَ دراسةً منهجيةً ميدانيةً حول «اتجاهات الصحفيين السعوديين في التعاملِ مع مدارس تحرير الخبر»، إضافة إلى دراستين بحثيتين، عن «الصحافة المتخصصة»، و«ثلاث مدارس في تحرير الأخبار»، وكُلها تم تحرِيرُها، وِفقَ البرنامجِ العِلمِيّ الصارمِ، في جامعة أوهايو، وتُعدُ مراجعَ مهمة للمتعطشين إلى النبع.
عاَد إلى وطَنه، بشهادةِ الماجستير، في الإعلام سنة ١٩٨٥، بعد أن امتلأ عقلُهُ بدقائِق الفن، ليُتَرجِمَ ما تلقاه من معارفٍ غزيرةٍ، أفعالاً تضعُ اسمهُ في أعلى قوائمِ الإعلاميين، الذين قَدّمواَ مشروعاتٍ وطنيةً جديرةً بالإشادة والاحتذاء… وبرهن على كفاءةٍ لافتةٍ، فأصبحَ المستشار الإعلامي، ومدير العلاقات العامة والإعلام، في الهيئة الملكية للجبيل وينبع، بين عامي 1985 – 1986، قدم خلال تلك الفترة، الكثير من الاستشارات المميزة، التي بَوّأّتُه لاحقاً ليكون مستشاراً إعلامياً لوزير البترول والثروة المعدنية، ومديراً للعلاقات العامة والإعلام في الوزارة ذاتها، من 1986 حتى 1988.
مع حِبرِ «الخضراء»!
بعد ذلك، اعتمرَ نشاطاً آخر، وجلسَ في منصبِ نائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، ومشرفاً على ملحقها الاقتصادي، منذ تأسيسه سنة 1988، واستمر يمارس الواجبين، إلى أن انصرم عام 1992، وخلال هذه الفترة، حافظ على لياقة البذل والإنتاج، على مرأى ومسمع من عطاءٍ ممتثلٍ لشرط الجودة.
دِقَةُ محمد التونسي، المعروفةِ عنه، تجعلهُ يؤَكدُ أن بقاءه في الشرق الأوسط كان ست سنوات إلا ربع السنة، ولربع السنة تلك، قصةٌ يَرويها بنفسه، عن رئيس التحرير الذي يقول عنه مازحاً، صادقاً، بأنه: «حالم بحق ولا يعرف المستحيل، لكن أحلامه تورط الذين يقابلهم صباحاً»، والجميع يعرفُ أن هذا الوصف، مفصلٌ تماما، على أستاذنا عثمان العمير، فبَعد أن كانت فكرةُ العمير مُلحقاً اقتصادياً، مضافاً إلى «الشرق الأوسط»، كبرت الفكرةُ لكي تصبح، صحيفة، اقتصادية، سعودية، بقدرة قادر. لكنّ الدهشةَ كانت نصيب محمد التونسي، الذي يقول: «استدعاني الناشران، هشام ومحمد علي حافظ، في مبنى العملاقة الخضراء، في هاي هولبورن بلندن، وأبلغاني بالفكرة، وباختياري رئيس تحرير، لمشروع صحيفة جديدة، اسمها (الاقتصادية)»، ستصدر من جدة، غرب المملكة العربية السعودية.
ولادةٌ متعثرة لصحيفة متخصصة!
لكن كيف ستنافسُ بصحيفة خضراء، قيمتها خمسة ريالات، تكتبُ بِنَفَسٍ ممتلئٍ بالأرقام والإحصائيات، صُحفاً تُقَدِمُ كل الأقسام، وبضع صفحات اقتصاد؟! هل ستتوجه للمختصين؟ أم للعامة؟! كم عدد الخاصةَ؟! هل المجتمع بعامة، والاقتصادي بخاصة، جاهز لهذه الجِدّيَةِ؟ وتِلكَ الصرامة؟ أم أنهم مؤمنون بأن زامرَ الحَيِّ لا يُطربُ؟!
مَرّ العَامُ الأولُ بخسارةٍ ماليةٍ كبيرةِ، للصحيفة الناشئة، الخضراء، الرصينة، والجادة. مؤلمٌ أن تكتشفَ أن الجِدِّيةَ والرصانةَ، قد تقذفُكَ إلى ساحل الخسارة!
إلا أنَّ، التونسي، رجلُ المهماتِ الصعبةَ، الذي لا يُحِبُ الظهورَ، ويستعيض ُعنه بالبقاءِ حتى وجه الصُبح في المكتب، كان يحيك شكلاً جديداً للصحيفة، فطلب مهلة ٤٨ ساعة من مجلس الإدارة ليقدم أنموذجاً جديداً للجريدة، يخرج بها من عنق الزجاجة، ضمنه تخفيض السعر إلى ريالين، ليس هذا فحسب، بل انتقل إلى الاقتصاد الشعبي، نكهة محببة للقارئ السعودي، ذلك الذي يقول عنه محمد التونسي، حين سُئِلَ عن الصفقة التي يتمناها، وينتظرها على الدوام: «الصفقة مع القارئ، هي الصفقة الرابحة».
ولكي يبيعَ، ابنُ المدينةِ صحيفته، ويتجاوز عثرة البداية، بدأ باللعبة التي عُرف بها بين الصحفيين، وتَمَيّز بها لعقود: لعبةُ صناعَةِ العُنوَانِ، ودَمجِ الصُورةِ، لتسرِقَ عينَ القارئ، الباحث عن خبرٍ صحفيٍ ساخنٍ.
لم يَخِبْ أبداً رهانُ الناشرين هشام ومحمد علي حافظ، في ابن المدينة، العائد من بعيد، ليضعَ بصمَتَهُ، التي لم يطلب عليها سوى الثقة الكاملة، وعدمُ الَتَدخُل في صلاحياتِ رئيسِ التحرير، ذلك الطلبُ الوحيد، الذي يلازم محمد التونسي، أينماَ حَلّ وارتحل، وهو أحدُ الأسباب التي تجعَلُهُ دائماً، الحصان الرابح، في معظم السباقاتِ التي يَخُوضُها.
فالرجلُ مؤمنٌ بالرسمةِ، إيمانُه بالعنوان، ودقيقٌ جداً في التحرير -بطبيعة الحال يستحيل أن تكون على رأس إحدى عشرة مؤسسة إعلامية- دون أن تكون بدقة محمد التونسي، وصرامته، تلك الصرامة، تصبح مستحقة، إذا كان رئيس التحرير يبدأُ يومهَ الأول، بسؤال كل موظف، عن ما كان ينقصهُ في الإدارة السابقة، ليكونَ أفضل الآن، فكانَ إعلانهُ الأول، لمحرري (الاقتصادية): «رحلتنا بعيدةٌ، أبعد من قصبة قلم، أو مساحة ورقة».
وبما أن الرحلة بعيدةٌ، أرسل مجموعة من صحفييه لدوراتٍ مُتقدمةٍ، في الكمبيوتر وتطبيقاته، ومن ثم أتبعها بدوراتِ فنونِ الصحافةِ الحديِثة، التي تعلّمَها في أمريكا، وشاهدها عياناً، في عاصمة الضباب لندن، رفقَةَ شيخهِ الحالِم عثمان العمير.
وُلِدَ صحفياً!
يقولُ عنه الأستاذ بتّال القوس، رئيس تحرير جريدة (الرياضية)، ورئيس القسم الرياضي بقناة (العربية)، وأحد الذين عملوا معه، واستفادوا منه: «التونسي، رجلٌ معجونٌ بالصحافة، منغمسٌ فيها، إلى درجة أنك تَتَخيلُهُ -أحياناً- وُلِدَ صِحفياً، ولا يَعْرِفُ فِعْلَ أي شيء ٍآخر غيرها».
يعودُ نجم الإعلام الرياضي، بتّال، ليطلق القوسَ سهاماً تُحسبُ في رصيدِ التونسي، قائلاً: «كَسَرَ كلاسيكيةَ وجمودَ الصفحةِ الأُولى، في الصحافة السعودية، التي كانت نُسَخَاً مُتشابِهَةً. التونسي ابتَكَرَ المانشيت الحقيقي في الصفحة الأولى، وأصبحت صحيفتهُ أولَ صحيفةٍ تبيعٌ إثر قُوةِ المانشيت».
الذين عملوا مع التونسي، في الصحافة الورقية، يشهدون له بَأنّ إبداعهُ، لم يَكُن مُقتَصِراً على العمل الصحفي، فقط! كلهم يشهدون، أنه كان مُبدعاً في الإخراجِ الصحفي، وأنهُ دائماً ما يُفَكِرُ هنا وهناك، خارجَ الصندوق، ولذلك كَانَ المصورون الصحفيون، من الأهمية بمكَان، في كل صحيفةٍ يكون الرجلُ على رأسها.
لَبِسَ المَدَنيُّ، ثوبَ الناصح الأمين، أمام تعنت المعلنين، في تجربة (الاقتصادية)، فصوتُ المستهلك قد يَضُرُ منتجيِنَ على الرف، لكن ابن الحجاز العتيق، بقي عنيداً صلباً، يُشَككُ التجارُ في كونِه الناصحَ الذي يُريدُ صوت المستهلك والريالين اللذين في جيبه، مقابلَ التضحية بملايين المعلنين.
الأكيد، أن التونسي، وصل لصفقة من صفقاته، التي لا يحب الإفصاح عنها، كما يرفض الإفصاح عن مصدر معلوماته، حين تتأكد المعلومة، ويصبحُ المصدرُ رأس ماله.
قسوةٌ مثمرةٌ!
قِصَصُ التونسي، مع (الاقتصادية)، لا تقتِصر، على التعامل مع المُعلن والقارئ، فقد كان له مع الصحفيين، وخصوصاً الشباب منهم، صولاتٍ وجولات.
ذات يومٍ، دقّ رئيس تحرير (الاقتصادية)، على جدار مكتبه الزُجاجي، المُطِلِ على صالةِ التحرير، بِعُنفٍ لافتٍ، فشَخَصَت أبصارُ كل من كان في الصالة تجاهَ التونسي، وهو يُشِيرُ إلى صحفي صغيرٍ، للتو صعدَ من مركزِ التدريبِ، ويطلبُ منه الحضور لمكتبه، وعَينا الرئيس، تكادُ تُطلقُ شَرَرَاً نحو الصحفي المبتدئ!
دخلَ المتدرب مكتب رئيس التحرير، للمرة الأولىَ في حياته، منتفضاً من رهبة الموقف، فعاجَلَهُ التونسي، بسؤالٍ: لماذا تَنّقُر؟! يقصدُ: لماذا تكتب على جهاز الكمبيوتر بأصبع واحد؟! زاد التونسي: ألم تتعلم في مركز التدريب الكتابة بكلتي يديك؟! عَقَدَ الخوفُ لِسانَ الصحفيِ المتدرب، وغشاهُ صمتٌ مطبقٌ، فارتفعَ إيقاعُ حديثِ رئيس التحرير، وقال: إذا رأيتكُ بعدَ ذلك تكتبُ على الكمبيوتر بيدٍ واحدةٍ، فلن يعجبكَ تعامُلي معكَ حِينها!
لم يَمُرَ وقتٌ طويلٌ، حتى أصبحَ الصحفي الصغير، واحداً من أسرعِ من يكتب على الكمبيوتر، بفضلِ نصيحةٍ قاسيةٍ، لكنها آتَتْ أُكلها. القصة أرويها عن الصحفي، الذي باتَ كبيراً، قيمةً وعُمراً، وهو فَضّل عدمَ ذِكر اسمه، لِكنَهُ لاَ يفتأ يذكرُ اسم محمد التونسي، باعتباره ساهمَ في صناعة احترافيته، شاكراً هذاَ الفضل على الدوام!
نعودُ لسنوات البدايات، فالصفقات لرجل طموح، تعني الانتقالَ الدائم… الانتقال المليء في محطات تبدأ من… «تحت الدرج»!
يذكرُ التونسي، بدمع قلبه، وهو يرثي، أستاذ الجيل، تركي السديري، رحمه الله، أنه -التونسي- كان مع مجموعة تضم الدكتور سلطان البازعي، يجلسون في صيف لاهب، بأحد المباني في شارع الستين بالرياض، تحت الدرج، لإخراج أول عدد من أعداد مجلة جامعة الملك سعود، فرآهم أبوعبدالله السديري، صُدفة، ليفتحَ لهم غرفةَ المُساعد، ويُرسلُ العاملَ ليحضِرَ لهم الماء، حتى ينجِزوا ما جاؤوا لأجله.
شجاعة سعودة «الإخبارية»
يعرف الكثيرون محمد التونسي، اليومَ، بصفتهِ مديراً للشاشة الأهم في الشرق الأوسط، مديراً لقنوات مجموعة (mbc) بالسعودية، منذ ٣٠ سبتمبر ٢٠١٨، لكن السنوات الثلاث التي قضاها رئيساً لقناة «الإخبارية» السعودية من ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٨ تجعل زيارة مكتب التونسي مقصداً لكثير من مشاهير القنوات التلفزيونية، فالثقة التي زرعها في جيل كامل، ساهمت في أن يكون الوجه السعودي بارزاً اليوم في شاشات التلفاز.
يقول التونسي، بفخر: «كما أن التمكين لرئيس التحرير، أو مدير القناة، شرط لنجاح أي مؤسسة، فإن شرط التمكين، يستصحبُ إعطاءَ الثقةِ للمرؤوسين، فـ«الإخبارية»، كانت مليئة بالمتعاقدين، من غير السعوديين، حين قَدِمتُ إليها، وكانت القائمةَ الأولىَ التي استَلمُها تَضُمُ أربعينَ سعودياً يُوصىَ بالاستغناء عن خدماتهم. أخذتُ القائمةَ، وجلستُ مع كلِ موظفٍ، بدأتُ من التعلم من شبابنا السعوديين. لا يُمكِنكَ أن تُحاسِبَ أحداً، دون أن تعرفَ وتتقنَ -قبلَهُ- المُهمَةَ التي ستُحاسِبُهُ عليها، وشيئاً فشيئاً، بدأت الرحلة مع القائمة المذكورة ذاتها. للثقة مفَعولُ السِحْرِ في أيّ إنسانٍ، وطبعاً مع المُحاسبةِ، ولهذا تركت (الإخبارية)، ونسبة السعوديين فيها ٩٤،٧٪.
توريط زوجة!
ومن أطرف ما مر عليّ، وأنا أتتبعُ حياة محمد التونسي، العريضة، خاصةً أيامه في (الإخبارية)، قصةَ تعرُفِهِ على حرمهِ المصون -رفع الله عنها المرض وألبسها لبوس العافية- الإعلامية القديرة، الأستاذة ريما الشامخ، في مكتب (الاقتصادية)، إذ جاءت باحثةً عن عمل في المحاسبةِ، فوَرَّطَها بعرضٍ في الصحافة. قبلت، ثم انتقلت قبله لقناة (الإخبارية)، لتصبح ثاني وجه يظهر على شاشة القناة. دارت الأيام، وأصبح الزوجُ رئيساً لزوجَته في العمل، غيرَ أن جِدِّيةَ التونسي، وصَرَامته في العمل، جَعَلتاهُ يعترضُ على بعض ضَيوفِ ريما/ المذيعة، ولم يكن متاحاً لها التواصلَ المباشرِ معه في العمل، مما جعلها تستخدم الوساطات، ومع ذلك، انتهى بها الأمر، إلى أن تشكو زوجَهَا/ مديرها، إلى مستشار وزير الإعلام، لشؤون التلفزيون، حينها، الراحل، الأستاذ محمد قَزّاز، رحمه الله. وتقول الرواية: إنها أُنصِفَتْ، ولو بعد حين!
مهووس بالوقت!
ذهب محمد التونسي، إلى (إيلاف)، ومن ثَمّ (عكاظ)، فحَمَلَ الضوءَ معهُ مرةً ثانيةً. عاد لعادته القديمة، في الانتصار للصورةِ والكاريكاتيرِ، ورفضِ المقالِ الطوِيل، مُصِّراً علىَ قناعته العتيقة، بأن الخبَرَ هو الحدث، والرأيَ لا يعدوُ أَن يكونَ انعِكاسِاً، وصدىً، وأثراً، من آثار الخبر الصحفي الجيّد. والحقُ، أنَ الرجُلَ، كان سابقاً زَمَانهُ، على الدوام، وتعليل ذلك -عندي- بسيطٌ جداً: فمحمد التونسي، مهووسٌ بالوقت، يندرُ أن يلتفتَ إلى الوراءِ، ويتطلعُ دائماً للمستقبل، وحين تقول المستقبل، يوقِفُكَ، ويقولُ لك بصوتهِ المُميَز: المستقبلُ القريبُ القريب. فمستشار وزير البترول السابق، يعرف أن الاختلافَ الطفيفَ في سِعْرِ الِبرميلِ، لا يحتاج وقتاً طويلاً، ليحدث فرقاً. الرجل المتنقل بين رئاسة تحرير صحف متعددة، والمستشار الإعلامي، ورجل الصحافة الورقية، والإلكترونية، والتلفزيون، جرّب مراراً، تحويلَ الأحلام إلى مشاريع حقيقية… مناصِبُهُ المتعددةَ، عَجَنَ فيها كلُ واحدٍ بالآخر، ولهذا لم يَكُن صَعباً على التونسي، أن يتعاطى معَ الإعلامِ، أياً كان شَكلُهُ، برؤيةٍ مستقبليةٍ.
محمد التونسي، الذي لا يَتَثَاءَبُ على الإِطلاق، خرجَ من الشاشة، بحنين الصحفي الذي أدمَنَ رائحةَ الورق، إلى رئاسةِ تحرير (عكاظ)، فألبَسَها عناوِينَهُ القَصِيَرَة، عاليةً التركيز، مُدَبَبَة الأسنانِ، حادَّة الأطرافِ، ليملأَ الدُنيا ويَشغَلَ الناسَ، مرةً أُخرىَ.
ولأنَ الحُريّةَ مسؤولية، نَشُطَ في الصحافةِ الاستقصائية، التي يقولُ إنها مفقودةٌ تقريباً، لأنّ الكثيرين عادة، ما يتوجهون للنقدِ لا للبِنَاءِ، والصحافةَ في منظورِ التونسي، قراءةٌ فاحصة لاحتياجات الشارع، ومراعاة دائمة للمسؤولية المُناطة برئيس التحرير، والمشَيّ على حِبَالهَا صَعبٌ، لا يَصْبِرُ عليه إلا شَغُوفٌ، محبٌ لمهنَتِهِ.
يَكْرَهُ مَحمد التونسي -وهذا ليسَ سراً- الصِحافةَ الإلكترونية، وبخاصةٍ ما كان منها، موقعاً إلكترونياً لصحيفةٍ ورقيةٍ، دونَ أن يواكِبَ التحديِثَ، في سعرِ البرميل، ودونَ أن يُسابِق وسائلَ التواصُل الاجتماعي، التي أقنعت وسائلَ الإعلام بالركض وراءها، في سباقٍ لا يعرفُ أحدٌ كيفَ تكونُ نتائجُهُ النِهائيةَ، وإن جَزَمَ الجَميعُ، بأنّ السِبَاقَ غيّرَ شكلَ الصحافةِ كُلها.
يومَ كانَ، رئيساً لتحرير صحيفة (الرؤية) الإماراتية، وفي لقاء بمكتبه هُناك، قبلَ عامين، يُحَرّكُ محمد التونسي شاشةَ كمبيوترهُ، ويقولُ بأسى استشفيتهُ، وإن أحَسَنَ إخفاءَهُ: «٨١٪ من المواطنين الإماراتيين لا يذكرونَ آخرَ مرةٍ تصفحوا فيها جريدةً ورقية»، ولَكِّنَ ابن المدينة، يعرفُ كيفَ يصلُ إلى المتلقي، ولو بعدَ حين، فالإحصائيةُ التيِ قَرَأَهَا من الكمبيوتر، كانت استبياناً قامت به الصحيفة التي يَرْأّسُها!
ما أوسع حِيَلَكَ، وأكثر حِبَاَلَك، يا أبا عبدالإله!
البعضُ، يرى، أَنَّ كُرهَ التونسي، للصحافة الإلكترونية، نشأَ بعدَ -إبعاده- من رئاسة تحرير (عكاظ)، إثرَ مادةٍ صحفيةٍ أثارت جدلاً، واحتجاجاتِ أعدادٍ كبيرةٍ من القراء!
الساعاتُ الأخيرةُ، للتونسي في صحيفة (عكاظ)، تختَصِر الكثيرَ، فقد بقيَ حتى الثانية والربع صباحاً، مع المحررين، يُشرفُ على عددِ اليومِ الأخير له، في الجريدة…
ألم أُخُبرُكم بأَنّ الطبعَ يغلبُ التَطَبُع، واحتراف الصحافةِ طبعٌ لا يستطيع الرجل المَدَنِيَّ، أن يُغَيِرُهُ، ولو تمنى ذلك؟!
الانتقال لملعب أوسع!
لم يترجل التونسي، الأنيقُ بعد، بل انتقل إلى ملعبٍ أوسع… فمن لندن، وجدة، والرياض، إلى دبي، وأبوظبي، رئيساً لتحرير (الرؤية) الإماراتية، ومستشاراً إعلامياً في وزارة شؤون الرئاسة الإماراتية، إلى التلفاز مجدداً، مديراً لمجموعة mbc بالسعودية، وحين سأله الزميل عبدالله المديفر، في (روتانا خليجية)، عن تعريفه للتلفاز، أجاب: «صناعةُ التلفاز لا تعرفُ الانتظار، وهي تحتاجُ لفهم المزَاج العَام، واستشراف المستقبل القريب».
أعرفُ أن التونسي، لا يتَخَلَى عن ذاَتِ التُهمَةَ، التي يُلصِقُها بصاحبه عثمان العمير، تهمةُ متابعةِ الأحلامِ، واستشرافِ المستقبلِ… ليسَ المستقبل البعيد، بل القريب القريب… وهي ليسَت بصَعْبَةٍ، على رَجُلِ أَدْمَنَ الاقترابَ مِن القارئِ، ثم حَذّرَ مُبَكراً من موتِ الصحافةِ الورقيةِ سريرياً، إن لم تَتَدارك نفسَهَا، وتُطُوّرُ من أولوياتها…
بقِيَ للتونسي، رهانٌ، وحيدٌ، أخيرٌ: أن يستمر راكضاً إلى الأمام… ذلك الركض، الذي يجعَلُهُ سابقاً للقارئ، والآن، سابِقاً للمشاهد… في عالمٍ لا تتوقفُ ساعَتُهُ عن الدورانِ، بل وأصبحَ دورانُها أسرعَ من قَبل… هذا العالم الجديد، يرفضُ محمد التونسي، الاستسلام فيهِ، وخَبَرْنا من قديمِ سَيْرَته، أنّه رجلٌ عنيدٌ، ولذلك نأخذُ رفضَهُ الاستسلام مأخذاً جِدياً، فحيثما حلّ الرَجُل، أصبحَ رقماً صعباً، في كُلِ معادلةِ عَمَلٍ غَشِيَها.