قيمته المضاعفة، مهنياً، بدأت منذُ ولادته، عبر اسمه، فاسمهُ المفرد يحمل معنى الضِعْف، لأنه مثنى!
إن قلت: قينان، لم تعن سواه، فإذا وقفت عند النون، أكمل المتلقي قبلك: قينان الغامدي!
وقد قرأت ذات فضول أن اسم قينان يعني الرجل الذي يكتشف الأشياء ثم يصلحها ويتعرف عليها من جديد، والاكتشاف محتاج أبد الدهر لشجاعة تلازم صاحبها والإصلاح كذلك محتاج للمواجهة، والتعرف من جديد دلالة استمرار الحياة.
قينان الغامدي – في نظري – هو الصحافي السعودي الشُجاع، الذي لا يتخوف إشعال الحرائق دوماً، والمنقذ حين تعي الحيل الرجال، الصادقُ، صاحبُ طبقة القرار، المحترمة في صوته، وهو يقول دون مواربة: «نعم أُقلت، وإذا أردت أن تقول: إني استقلت، فلا فرق مادام المؤدى النهائي توقفي عن العمل».
تُعرف الصحفُ بِهِ، فيكون انتقاله إليها، إيذاناً بمرحلة جديدة، عنوانها الانتشار والتجديد، وصناعة صحافة تغري القارئ لمتابعتها.
تابع ما فعل قينان في (البلاد)، وقينان (عكاظ)، وقينان (الوطن)، وكذاك قينان (الشرق)…
لكل مرحلة قينان، ولكن قينان كثيرُ المطالب، عالِي الصوت، صريحُ المواجهة.
قبل عقدين، كان يصرخ، صحافياً. مطالباً بحق المرأة في القيادة، ويخرج على الشاشة بعد يوم طويل ليناقش وزير التعليم، ويقول دون تردد؛ بأن الصحافة لا تحتاج لكليات إعلام، لكنها محتاجة لمعهد تدريب عملي ينتظم فيه أصحاب التخصصات المختلفة، ليتعلموا الإعلام عملياً. كثيراً ما ينقذه صدقه من حبل المشنقة، وفوق صدقه هو صاحبُ أدبٍ جمٍ، أنيقٌ كأنك تحدث مدير مدرسة ابنك، وصارمٌ مثل تاجرٍ في دُكانه، يريد أن يبيع، وأن يكسب، ويعشق مهنته، لكنه لا يحب أن يَظلِم أو يُظلَم.
ٌرجل من أهل الجنوب، واضحُ الخصومة، لا يتختل لخصمه. يُفضل الخسارة، على أن يأتي خصمه من الخلف! يُطلِق النارَ في السماءِ لمقدَمِك، وَفِيٌ لأصحابه، يذهب للعمرة كي يسأل الرحمن أن ينجز، ويبدأ مشعل السديري في كتابة مذكراته.
قينان… حكايةٌ وأي حكايةٍ، فتعالوا لنشهد سيرة، صحافي شجاعٍ، في زمنٍ يعتبر البعض الشجاعة فيه تهوراً!
ابن القرية المدلل.. كثير الأمهات
قينان، مدلل الجميع في طفولته وصباه.. وربما إلى الآن. هو الذي يأمن العقوبة الشديدة، ولا يُسيء الأدب، أنّى تطاولت مشاكساته، تشعر بأنّه محظيّ، ومهما احتدّت عباراته، ترى في بياض نيته ما يشفع له. ولذلك جذورٌ في تاريخه الشخصي، فقد حَفَّتهُ منذ طفولته عناية ضافية لأسباب؛ إذ تربى يتيم الأم، فصارت له في قريته (الطويلة)، بمنطقة الباحة، عشرات الأمهات، يقول: «لدي أمهات عدة من نساء القرية، وعشرات الأخوات والإخوة، بحكم أنني يتيم الأم، فصرت أجد الحب والعطف والخدمة في بيوت كثيرة».
عاش قينان، المولود في 1957، طفولته في تلك القرية الوادعة، ثم رحل إلى مدينة الطائف، في تحوّل مألوف لأبناء تلك الباحات الجميلة.
دخل الطائف في الثانية عشرة من عمره، ولما وصلها فتحت المدينة عينيه على آفاق جديدة. لم تُضِف الطائفُ إلى الصبيِّ المحظوظِ، «الفول والتميس والمطبّق»، فحسب، بل أخذت بيده إلى العالم الأكبر؛ إلى حيث «الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والجار الذي لا يستبطئك»، هذا الذي وَجَدَه في مكتبة «السيد» في البلد، ومكتبة «الثقافة» في باب الريع، اللتين تَعَوَّدَ ارتيادهما في تلك السن المبكرة، بفضل التشجيع على القراءة الذي كان يلقاه طلاب المعهد العلمي بالطائف، حسبما يتذكر.
أبوعبدالله، وهي كنية قينان الأثيرة، يتذكّر أيام دراسته؛ سواء في ابتدائية بني سعد، التي تخرَّج فيها 1969، أو في المعهد العلمي بالطائف، الذي تخرَّج فيه بتقديرٍ ممتاز عام 1975، يستعيدُ بإجلالٍ أسماء المعلمين مقرونةً بما نقشوه في ذاكرته من معارف، يتذكر في المعهد العلمي، حسن الحازمي، من معهد الباحة، قائلاً: «هو أول من دفعني إلى مكتبة المعهد، وصالح العليان، وإبراهيم الفوزان، والشيخ أحمد الغامدي، وعبدالله الشبانة، وعلي سلطان الحكمي، والسُوري حسين قاسم، ويحيى معافى، وكل هؤلاء درسوني وشجعوني في معهد الطائف العلمي». وتذَكُّره لا يقف عند أساتذة الصبا الذين تبقى علومهم نقشاً في حجر، بل يُمُرّ بدورة المعلمين بمكة، تلك التي أهّلته، وكلية المعلمين بالطائف التي كمّلته، وأساتذة كلية اللغة العربية بجامعة الإمام بالرياض، وحتى أولئك الذين علّموه قبل سنوات قليلة، اللغة الإنجليزية في بلاد الإنجليز، حين هاجر مبتعثاً، أو مُعتكفاً، إلى جامعة كارديف ببريطانيا، بعد أزمة (الوطن) الشهيرة، التي استغلّها لغة القوم، ليأمن مكر صاحبة الجلالة!
كانت حياة الطائف التي جاءها من الطويلة فصلاً جديداً، ملأه الغامدي بالدروس والدورات والتأهيل، وأيضاً بالعمل والكسب، ودروب صقل الشخصية المنتجة، فبعد أن صادق الكِتاب والدورات المهنية والأنشطة، تعلّم استغلال وقته باحترافيةٍ قد لا تجدها إلا في سيرة نجوم الصحافة والسياسة في دولٍ مثل بريطانيا وأمريكا، وهي على أُلفتها لكثيرين من أبناء جيله تبدو غريبةً على ناشئة الأجيال التالية له، خصوصاً تلك التي تكوّنت عقب الطفرة النفطية، ومجتمع الرخاء، إذ عمل قينان خلال إجازات المعهد بين العامين (1971، 1972) عاملاً بمخرطة الطبش بالطائف، كما عمل في السنتين التاليتين، عاملاً بالمنجرة الأهلية بالمدينة ذاتها، وبعدها عمِل كاتباً للعرائض.
التكوين المهني.. إلى التعليم دُر
عُرف قينان في المحيط الدراسي الأكاديمي، بالنشاط والمثابرة، فتولى رئاسة النشاط الثقافي العام -اللا صفِّي- بالمعهد العلمي بالطائف، عامين متواليين (1974، 1975)، وهذا الضرب من النشاط، يُكسِب صاحبه دُربةً لا تتوافر لدى المنكفئين على الكتب دون ممارسة معارفها، والمعتكفين في المختبرات دون إصدار نتائجها، إذ تُنَمّي الأنشطة اللا صفية، التفاعل الإيجابي مع المعارف، وتقدح في نفس الطلاب الرغبة في تداول المعرفة، وعشق المعلومة، وتخلق الشخصية القيادية، التي يحتاجها صنّاع الرأي العام.
واصل أبوعبدالله على هذه الوتيرة من النشاط الإيجابي، والقراءة والاطلاع، دون أن تؤثّر هذه الأنشطة على أدائه التعليمي، إلى أن نال شهادته الثانوية من المعهد العلمي، في (1975). فقدّم أوراقه للكلية الجوية بالرياض، وقُبل فيها، إلا أنّ والده كان له رأي حازم آخر؛ إذ اقترح على أكبر أبنائه الذكور طريقاً آخر. فيمّم صوب مكة، للالتحاق بدورة المعلمين هناك، وتخرّج فيها بتقدير ممتاز في 1976، وقفل إلى الطائف، ليصبح معلماً فيها، ويواصل مشوار التأهيل، فنال دبلوم كلية إعداد المعلمين بالطائف، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، متخصصاً في اللغة العربية والاجتماعيات، عام (1980)، وفي الوقت نفسه، كان منتسباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومنها حصل على بكالوريوس اللغة العربية في (1982). استمرّ قينان في سلك التعليم، معلّماً، ثم مدير مدرسة ابتدائية بالطائف وجدة، في رحلة استمرت من 1976 إلى 1989.
حكم رياضي درجة أولى!
كانت أحلام الفتى تتمدّد في المراحل كلها، وهو يتزوّد للمستقبل برعاية كل المهارات التي يأنس في روحه أصلاً لها، فدخل عام 1977 دورةً في الإعداد والإخراج المسرحي بالطائف، أردفها بدورة في الكتابة المسرحية، في مسيرة أجزم بأن لها ثمرة، تحتاج من يجلو عنها الغبار، أو لعلها تبرز يوماً. وليتأهل لإدارة المدرسة الابتدائية، التي يُعلِّم فيها، انتظم في دورة في القيادة التربوية بالطائف في (1979).
انخرط قينان، أثناء عمله في التعليم، بدورة في تحكيم كرة القدم، قَدَّمها الحكم الدولي مثيب الجعيد، ونجح في الجزء النظري بتفوق، ونجح، بعد فشل أول، في اختبار كوبر Cooper، وهو اختبار اللياقة البدنية، وعَمِلَ حَكماً؛ ثم تدرّج إلى أن وصل إلى حكم للدرجة الأولى، في العام 1986.
إلى الصحافة.. عبر الرابطة والمنحنى
النّقلة الكبرى في حياة قينان التي قادته إلى بلاط صاحبة الجلالة، كانت في السنة الثانية من كلية المعلمين بالطائف، في العام 1980، حين أصبح رئيس الرابطة الطلابية، إذ جعله المنصب، تلقائياً، رئيساً لتحرير صحيفة الرابطة الطلابية، التي يُحرِّرها جمع من زملائه، المتعاونين مع الصحف اليومية، وأبرزها «عكاظ».
يروي قينان بداياته غير الرسمية، قائلاً: «في منتصف الثمانينات، كنت مثل غيري من (المخربشين)، أراسل بعض الصحف والمجلات من الطائف، وكانت مجلة (اقرأ) في ألقها؛ وفجأة وفي أحد الأسابيع، وجدتُ إحدى (خربشاتي) منشورة في زاوية أثيرة في مجلة (اقرأ)، اسمها (منحنى الوداع) على ما أظن. قد يكون من نشرها عمر يحيى، أو محمد الفايدي، أو عبدالله باهيثم، لا أدري، لكن الصورة التي في أذهان المتابعين، على الأقل في تلك الأيام، أن رئيس التحرير هو من يُجيز ويمنع». يضيف: «كنت أقرأ للدكتور عبدالله منّاع في مجلة (اقرأ)، وكنت أتابع بعض أحاديثه في الإذاعة، وعندما انتقلتُ إلى مدينة جدة، كنت حريصاً على أن ألتقي به، وفعلاً التقيت به لقاءات عدة متباعدة، لكنه كان شامخاً؛ جِسماً وفكراً، وكنت ما زلت أحبو في بلاط صاحبة الجلالة. ظلت هذه المحاولات مستمرة من جانبي، وربما هو لا يعلم عنها، إلا بعد أن تعرّفنا على بعضنا بصورة جيّدة، إلى أن قدر الله وانتقلت إلى صحيفة (البلاد)، فتعمّقت العلاقة وتطوّرت».
خبر عالمي يرفع أسهم قينان
لم يكن المتعاون مع جريدة «عكاظ» ليعلم أن تغطيته لاجتماع عادي، ستُحوِّل نظرة رئيس تحرير «عكاظ»، الدكتور هاشم عبده هاشم له. وهذا الخبر، إذ يحكي قينان قصته، ويستدل على ضرورة تأهيل الصحافي المبتدئ، يجمع فيه الطرافة والأهمية في آن، إذ يقول: «ثاني أو ثالث شهر لي وأنا في «عكاظ»، حين كنت مراسلاً لها من الطائف، كان هناك اجتماع في مكتب وزير البترول، يضم وزير البترول أحمد زكي يماني، ووزير الصناعة الدكتور غازي القصيبي، وأمناء ثلاث مدن، الرياض وجدة ومكة. كان الاجتماع في رمضان، فذهبتُ إلى مدير مكتب وزير البترول، فقيل لي انتظر إلى أن ينتهوا من الاجتماع». يقول قينان إنه انتظر من صلاة التراويح حتى الساعة الثالثة فجراً، وبعد انتهاء الاجتماع، انتظر الوزير زكي يماني حتى فرغ من حديثه مع غازي القصيبي، وتقدّم إليه حاملاً أداة التسجيل، وطارحاً «السؤال الذي أعرفه منذ دخلت الصحافة إلى اليوم: ماذا تم في الاجتماع؟» أجابه الوزير بلطف: «هذا الاجتماع لا يهم الصحافة»، ولما ألحّ قينان على الوزير، سأله يماني: «من أين أنت؟» فأخبره أنه من «عكاظ»، فقال الوزير، فيما ظنها قينان مجاملة: «سأعطيك خبراً أفضل من خبر الاجتماع»، ومضى يصرّح بالخبر: «سنجتمع في جنيف، نحن وزراء البترول في أوبك، بعد كذا، وسنرفع سقف الإنتاج إلى كذا، والمملكة ستتحمل فارق الإنتاج».
يقول قينان: «لم أكن أدرك قيمة المعلومة التي أعطانيها الدكتور زكي يماني، وظللت أحاول أن يخبرني عن الاجتماع»، ولما يئس قينان أخذ الخبر إلى البيت، وانتظر ظهر اليوم التالي، ليفرّغ السطرين ويرسلهما كأيّ خبرٍ عادي، ولكنه تفاجأ إذ انقلبت الدنيا في الجريدة، وهاتفه الدكتور هاشم سائلاً: «هل هذا الكلام في التصريح مسجل؟!»، يقول قينان «وكانت أوّل مرة يكلمني فيها رئيس التحرير»، وإمعاناً في الدقة، طلب هاشم أن يسمع التسجيل، و«في اليوم الثاني نُشر الخبر في عنوان على ثمانية أعمدة في الجريدة»، وظهر اسم قينان، في أول سبقٍ صحافي له.
التفرّغ للصحافة.. البداية من «عكاظ»
حكى قينان أنه في العام 1987 تقريباً، انتقل إلى جدة، ليعمل سكرتيراً لتحرير صحيفة «عكاظ»، ثم عمل سنتين قبل أن يستقيل من التعليم ويتفرّغ للصحافة، مديراً لتحرير «عكاظ». يصف قينان هذا القرار بأنه أصعب قرار في حياته، متحدّثاً لصحيفة (المدينة)، قائلاً: «كان موقفاً عصيباً، وقراراً صعباً، ومغامرة لم أندم عليها فيما بعد».
كثيرون نصحوا قينان ألاّ يتفرّغ للصحافة؛ لأنها مهنة غير مأمونة، وغَدّارة، ولكنه استجاب لإغواء نفسه، واستقال من التعليم، حين تحتّم عليه الاختيار. ذلك أنّ وزارة المعارف لم تكن لتقبل، حسب روايته، أن يظهر اسم مُعلّمها ضمن المسؤولين عن التحرير، بما يدل على عمله متفرّغاً في مهنتين. حين سألتُه عن المزيد: شرح لي أنه تعب من الدوام الطويل، إذ كان مضطراً أن يخرج من منزله عند السادسة صباحاً، للتعليم، ثم يذهب للجريدة بعد العصر، ولا يعود إلا عند منتصف الليل!
إذاً عمل قينان مراسلاً، ثم محرراً، ثم مديراً لمكتب «عكاظ» بالطائف، قبل أن يأتي إلى جدة ويصبح سكرتير تحريرها؛ لذا كان عارفاً بالكُتّاب وأسرار الصنعة، وكوّن كوكبة من الصحافيين الذين يعتزّ بصداقتهم. ترقّى إلى أن وصل مديراً للتحرير، ثم نائباً لرئيس التحرير، في رحلةٍ امتدت من يوليو 1982 إلى سبتمبر 1996، واظب فيها على كتابة مقاله الأسبوعي.
«عكاظ» مدرسة.. وهاشم جامعة
يقول قينان: «عكاظ» مدرستي الأولى في الصحافة، بل جامعتي الكبرى»، دخلها من بوابة مجلة الرابطة التي ترأس تحريرها، رفقة صحافيين يعملون في «عكاظ». ومع إرشاد سعد الثوعي وآخرين، بدأ تعاونه مع الجريدة العريقة، وكان للأساتذة فيها الفضل في تقديمه للأمام، وتسليحه بالجرأة، ودعمه بالنصح والإرشاد، فهي مدرسته الكبرى. بيد أني لاحظتُ أنه يذكر أساتذته، في هذه الصنعة بإجلال كبير، ويخصّ منهم الدكتور هاشم عبده هاشم، بكثيرٍ من التقدير، وهو تقدير مستحق لا يعرفه إلا أهل الفضل.
بحثت أتقصى عن المواقف الخاصة، التي تجعل الأثر الباقي هو المسيطر على عقل قينان، فوقفت على موقفين للدكتور هاشم مع قينان، أدركت معهما كثيراً من المعاني الجميلة، أنقل أولهما، وأحتفظ بالآخر لحاجة في نفسي.
ذكر الدكتور هاشم في كتابه «الطريق إلى الجحيم»: «ومن تلك القصص.. ما تلَقَّيته في يوم من الأيام.. من وزارة الإعلام بإقصاء الزميلين أيمن محمد حبيب وقينان الغامدي عن العمل بالجريدة، لإجازتهما مادة صحفية.. ما كان يجب أن تنشر من وجهة نظر الوزارة. وما فعلته في هذا الصدد هو استخدامي لكل أرصدتي من العلاقة بكبار المسؤولين بالدولة، إضافة إلى معالي الوزير الشيخ علي الشاعر «يرحمه الله».. لاستصدار موافقته التالية بإعادتهما إلى العمل، وذلك يعكس حالة الشد والجذب التي كانت تنتهي بصورة إيجابية وإن أبقت على حالة الشعور بعدم الاستقرار الوظيفي لدى الجميع.. وكنت حريصاً على عدم إطلاع زملائي على تفاصيل ما يحدث إبعاداً لهم عن حالة الخوف والتوتر».
البلاد.. من الإنعاش إلى الحياة!
حين لمع اسم قينان في سماء الصحافة السعودية، اختير لمهمة كبرى؛ فغادر «عكاظ»، واستثمر معارفه وخبراته القديمة لتُعينه في التحدي المقبل. حين اتُّهم قينان أنه أخذ المتميزين معه من «عكاظ» إلى البلاد، قال: «لم يَحدُث شرخ بيني وبين «عكاظ»، فهي مدرستي الأولى، والعاملون فيها كلهم أصدقاء وزملاء، أما نقل عدد من العاملين فيها إلى (البلاد) فهذا موضوع لم تثبت صحّته حتى يومك هذا».
سُئل الدكتور عبدالله مناع، عن عملية إنقاذ البلاد، فقال: «أنا من قاد عملية الإنقاذ لمؤسسة البلاد حينذاك، إذ طلبتُ من الدكتور ساعد العرابي الحارثي، باعتباره مستشار وزير الداخلية، بضرورة إنقاذ البلاد، ووجدتُ منه تجاوباً كبيراً، فبعد أن خاطبتُ الدكتور ساعد الحارثي، جاءت الموافقة بإعادة تشكيل مجلس إدارة المؤسسة، وتمّ بموجبه اختيار الدكتور عبدالله صادق دحلان رئيساً لمجلس الإدارة، وقينان الغامدي رئيساً لتحرير صحيفة البلاد، ومحمد صادق دياب، رئيساً لتحرير مجلة اقرأ، وأصدقك القول، بأنني من رشح وأتى بكلٍّ من قينان ودياب للمؤسسة؛ ليقودا حركة الإنقاذ فيها، وبالفعل أحدث كل واحد منهما نقلة كبيرة ونوعية للمؤسسة، فالصحيفة كانت لا توزع سوى 1500 نسخة، أصبحت توزع 25000 نسخة، والمجلة التي كانت أعدادها كلها رجيع، أصبحت توزع 10 آلاف نسخة. بعد ذلك، شهدَت المؤسسة انتعاشاً كبيراً نافسَت به وصيفاتها من الصحف الأخرى.
يختصر قينان تجربته بـ«البلاد» فيقول عنها: «انطلاقتي الحرة، وتحَمُّل المسؤولية الكاملة عن النهوض بصحيفة عريقة كانت في الإنعاش، فانتعشَت خلال بضعة أشهر».
وفي عز ذروة النجاح، جاء عرضٌ لقينان الغامدي، من الأمير خالد الفيصل – أمير منطقة عسير آنذاك – بترشيحه لرئاسة تحرير صحيفة الوطن، التي كانت قيد التأسيس والإنشاء، وجاء عرضٌ آخر فيما بعد لمحمد صادق دياب من الشركة السعودية للأبحاث والنشر؛ ليتولى رئاسة تحرير مجلة الجديدة.
الوطن.. ذروة سنام المجد
هي العلامة الفارقة في الصحافة السعودية، والمشروع الكبير الذي دشّن رؤية الأمير خالد الفيصل، أمير عسير آنذاك، وانطلق به لا لمنافسة الرياض والجزيرة و«عكاظ»، بل لوضع الصحافة المحليّة السعودية، في مصاف المنافسة العربية. كانت الدراسات الطويلة التي مهّدت للوطن، كفيلة بحفز الناس على ترقُّب ميلاد ابن النور، ونوّارة أبها وعسير التي لن ترضى بقامة أقل من تمثيل الوطن كله.
أسّس قينان الوطن، وصنع نجوميتها، قضى فيها سنتين قبل التأسيس، ومثلهما بعد التأسيس، تلك أربع سنوات كاملة، يشهد له الخصوم والأصدقاء بسهمٍ رابح في زيادة هامش الحرية، ورفع سقف النقاشات، والتعالي على المناطقية، واحتراف الصحافة في ساعات عملٍ محددة، وجملة من الفضائل التي يتصف بها النبلاء.
يقرع باب قيادة المرأة للسيارة، في وقت كان الاقتراب فيه من الموضوع يثير غضب الفئة التي تدّعي أنها تُمثِّل كل المجتمع، وإذا زاد الهجوم عليه، يُشرِع مبضعه ويقول بأننا نحتاج إلى الإصلاح الفكري قبل أيّ إصلاح، يهاجم السرورية، يقول ما يقول ولا يبالي، ما دام يلتزم الموضوعية، ويتحدّث من مُنطلق وطنيّ معروف، وينطلق من ثوابت الوطن الكبير.
إقالة قينان خبر يتكرر في كل المواسم، بعدها يستمتع بمطالعة رحلتك وأنت تُفكِّر في الأسباب؛ لكثرتها لا لقِلّتها؛ أهو مقال فلان، أم ذاك الخبر؟!
الرحلة إلى الشرق
في 7 أكتوبر 2009، وافق وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، على تعيين الأستاذ قينان الغامدي رئيساً لتحرير صحيفة الشرق اليومية، عن مؤسسة الشرقية للطباعة والصحافة والإعلام..
بعد عام من الدراسة، خرجت الشرق قويّة ومميّزة بتبويبها، واستفاد قينان من علاقاته بالكتاب المميزين، فحشد لها أبرز الكُتّاب في المنطقة، واستطاع أن يُثبِتَ أنه رجل لا يواطن القوالب الجامدة، بل يتجدد، فلقينان قدرة هائلة على خلق لُحمة ودفء ومحبة، بين فريق العمل الذي يقوده.
يقول عبدالله القرني عن إحدى تجارب قينان في الشرق: «ومن معجزات البلدوزر حدث ذات يومٍ قريب من صدور الشرق حريق مهول، أكل مكاتب الصحيفة ومعداتها، وأصرّ أن تَصدُر اليوم التالي، وبإصرار فريق عمله، ليجعل من الحريق قصة صحيفة اليوم التالي».
ولخلاف غامض، ولأسباب لا يمكن التقاطها، كعادته خرج قينان من الشرق، ولا يزال يحمل مَحبّة أهلها.
أمنيتي أن أقرأ مذكراته!
لا يزال قلمه يرفرف، ينتقل من مشروعٍ إلى آخر، ومن صحيفة لأختها. وأمنيتي أن يصل قلمه إلى تدوين كتاب فيه مذكراته؛ فأي متعة تلك التي سنتعرف عليها، ونحن نقرأ لرجل يتكلم بالحقيقة، عارية عن أي تجميل، ويضع الوقائع في سياقها المنطقي، ويُدرك رسالته؛ أن يقول ويكتب.
فلئن دعا قينان في الحرم أن يكتب الأستاذ مشعل السديري مذكراته، وقال ذات لقاء إنه على أهبة الاستعداد لإخراج مذكرات السديري، ولو على طريقة الأمالي، فإنني أحفز قينان أن يبدأ بكتابة مذكراته هو، وله من الجميع ألف عون، وعون، ولو على طريقة الأمالي، وهذا والله من أعز الأماني.
وإذا ما كان ذلك، في تلك المذكرات؛ سنرى بطولة أم عبدالله، صالحة، التي يذكرها قينان بحبٍّ وإكبار وإجلال كبيرين، وأميراته اللائي يحكي عنهن بفخر، وأبناءه الذين يقول إنه يود قضاء الأيام معهم، وتعويضهم، بجودة الوقت، عمّا مضى. كما سنرى معارك التنوير، واتصالات النصيحة والاعتذار، وصراعات الكبار، التي تنتهي به منتقلاً من صحيفة لأختها، فهو كما يقول عمنا المتنبي:
إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا
أَن لا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ!
لمن تقرأ يا قينان؟
يقرأ قينان كثيراً، ولعلي أزعم أنه لا يصادق إلا أصدقاء الكتب، فيندر أن يخلو مجلسه من حديث عن كتاب قرأه، هو أو صديقه الأستاذ مشعل السديري، أو فلان أو علان، وإذا أراد مدح أحد يقول عنه أنه قارئ جيد، وعن نفسه يقول: «أنا أقرأ في المجال الأدبي، بحكم التخصص؛ الروايات، ودواوين الشعر، والقصص».
مع مواهبه الكثيرة، قينان شاعر مُقِلّ، وكل شاعرٍ شاعرٌ مُقِلّ وإن كثُر شعره. تعَرّف القرّاء على شعره، يوم ردّ على قصيدةٍ للدكتور عائض القرني، أراد بالرد عليه أن ينفي عنه الشاعرية، في سجالٍ شهير.
قينان الغامدي، هذا العصامي المشرق، أستاذ الجيل، وصاحب الفضل على الجميع، ورفيق الأدباء والمعلمين، سيرته الغنية تصلح لمشروع فيلمٍ سينمائي شيّق، وأدنى الأمل أن تكون كتاباً، نصادقه، وينفع الأجيال، فهل يفعلها أبوعبدالله؟