قبل أكثر من مائة عام وبضعة عقود، كان ثمة تاجر حجازي، جاب أقطاراً شاسعة، سعياً للرزق، فركب البحر، متنقلاً بين الهند والحجاز ومصر، ناقلاً ما يمكنه من بضائع تطلبها السوق.
تزوج التاجر سيدة تدعى زينب، وأنجب منها: علي، ومحمد نور، خديجة، وآمنة، ورقية، وفاطمة، وكان «آخر العنقود»، صبي يدعى «حمزة».
بمكة المكرمة، في 1910، ولد حمزة شحاتة، الذي سيكون بعد سنوات من مولده واحداً من ألمع مثقفي الزمان وشعرائه. انتقلت أسرته إلى جدة، لتسكن منزلاً ملاصقاً لـ«بيت الجمجوم» ذي الأربعين غرفة. والجمجوم عائلة جِداوية ثرية تربطها بعائلة شحاتة صلة وثيقة، جعلت الفتى يمضي معظم وقت فراغه عندهم، فتولت إحدى بنات الجمجوم تدريس حمزة وتعليمه مبادئ العلوم.
كان حمزة صبياً مُدللاً، وسيم الملامح، قوي الشخصية، شديد الاعتداد بنفسه، فقد رفض أن يدرس في الصف الأول الابتدائي، حين أُلحِق بالمدرسة، قائلاً: «هؤلاء صغار، وأنا كبير، لن أدرس معهم». رضخ مسؤولو المدرسة أمام إصراره لرغبته؛ فوضعوه مع الكبار، وبعد فترة، بدا لأولئك الكبار أن الصبي سيتفوق عليهم!
تخرجَ الشاب حمزة في مدرسة الفلاح، بين أنجب طلابها، فابتعثه مالك المدرسة، التاجر، الوجيه، محمد علي زينل، إلى الهند، ليتدرب على أصول التجارة، ومهارات المحاسبة، ويشرف على بعض أعمال عائلة زينل، ويطالع الكثير من الكتب، في ضروب العلم والآداب والفلسفة. أمضى بضع سنوات بالهند، ثم عاد مسلحاً بالمعرفة والخبرة إلى جدة.
حمزة، الشاب، الذي يراوح بين الانبساط إلى الناس ومخالطتهم، وبين الانعزال عنهم والانصراف إلى القراءة، لم يكن شخصية عادية، فقد كان، كما يعبرون، منكباً على القراءة، يستوعب بيسر أعمق الكتب، ويمعن التفكير فيما يقرأ، فيخرج بتأملات فريدة، ونظرات ناقدة نافذة. ومنذ يفاعته وحمزة ينظم الشعر، فيأتي جزل اللفظ، دقيق العبارة، قوي الدلالة، انعكاساً لموهبة خارقة للمألوف، أهلته، ليصبح من ألمعَ شعراء الحجاز، في العشرين من عمره.
يقول عزيز ضياء (ت 1997)، رفيق حمزة وصديقه، في كتابه: «حمزة شحاتة: قمة عُرفت ولم تُكتشف»: «يبدو وكأنه ولد قمة منذ درجت قدماه على تراب هذه الأرض، وللقارئ أن يسمي هذه مبالغة وإسرافاً في التقدير، ولا أنكر أن التعبير ينبض بهذا المعنى، ولكن عندنا من الشواهد ما يجعلنا نتساءل ونحن نستعرضها: متى وكيف استطاع حمزة أن يهضم كل الذي هضمه وتمثله من ثقافات؟ صحيح أنه كان يقرأ ما نقرأ، وصحيح أن ما كان يصل إلى أيدينا من الكتب كان يصل إليه أيضاً، ولكن، كيف تأتى له ذلك النضج العقلي والفني، وهو بين مرحلة الصبا الغض والشباب، في فجره دون ضحاه؟».
شحاتة، رجل قلق، مرهف الإحساس، سريع الملل، لم يستقر في وظيفة، ولا دامت له زيجة، إذ جرب الزواج ثلاث مرات، ولم يوفق، فقال يلخص تجاربه: «الزواج الأول غلطة، والثاني حماقة، أما الثالث فإنه انتحار»، وعمل سكرتيراً للمجلس التجاري بجدة، ثم استقال، ليعمل مع شقيقه الأكبر، في عدة مشروعات تجارية، ثم عمل سكرتيراً، لوزير المالية حينها، محمد سرور الصبان (ت 1972)، ثم عاد للتجارة مع أخيه، وسرعان ما حمله الملل على الهرب إلى العمل الحكومي، ليتنقل، كالعادة، بين وظائف مختلفة، لم يكن عنها راضياً… ولنسمعه يقول:
وإن لطاعة الرؤساء سحراً
يبلغ من يطيق به السحابا
وما أخطأت إذ ألزمت نفسي
كرامتها وآثرتُ الصوابا
فإن الحق أجدر باتباع
ولو كانت عواقبه هبابا
يقال: إن العبقرية لون من الجنون، وقد كان حمزة شحاتة عبقرياً، لا يؤمن بالخلود، ولا يحرص على نشر شعره ونثره، إذ قال عنه المفكر العراقي علي جواد الطاهر: «يُوصف بزهده بالشهرة، وحبه للإصلاح، والصراحة، وعزة النفس، حد التضحية بالمال والجاه، وباللين المنطوي على العنف».
وحكى الصحافي عبد الله خياط (ت 2018)، أنه عرض على شحاتة جمع قصائده، ونشر بعضها، في ديوان، وفي جريدة «عكاظ»، فرد عليه حمزة بالرفض القاطع، مهدداً إياه بالمحاكمة، إن حصل هذا!
ولا بد من الثناء على الأديب والوجيه عبد المقصود خوجة، أقال الله عثرته، إذ تبرع بجمع وطباعة أعمال حمزة شحاتة الكاملة، بإشراف لجنة من الأدباء، وصدرت في مجلدات، ضمن منشورات «الاثنينية».
ينقل عبد الله الغذامي، الذي كتب أطروحة الدكتوراه «الخطيئة والتكفير»، دارساً شعر حمزة، أن مما لفته إلى إبداع شاعرنا، سؤال وجه إلى الأمير الشاعر عبد الله الفيصل، عن أفضل ثلاثة شعراء سعوديين؟ فأجاب: حمزة شحاتة، فحمزة شحاتة، ثم حمزة شحاتة.
كان حمزة، مثالي النزعة، دقيق المعايير، يحاكم نفسه، والآخرين، وفق مقاييس أخلاقية عالية، وينظر إلى الدنيا نظرة من يبتغي الكمال، في محيط يسخر من المثالية! ولذا، يمتلئ شعره بالشكوى، ورسائله بالسخرية، ولعل يأس حمزة، من أن تصبح الحياة على الحال التي يحب، هو الذي دفعه إلى الزهد في كل شيء، فصار صمته فكراً، وكلامه استغفاراً وذكراً، فدونك شيء من الأسى في شعره البديع، إذ يقول:
تُسائلني: كيف انتهيت إلى الرضا؟
وما علمت أن العزائم تصدأُ
أهبت بعزمي؛ فاستجاب، فردني
لسالف أطواري حياءٌ ومبدأُ
لأمرٍ رأى ذو الرأي أن حثالة
من الناس أقضى للمراد وأكفأُ
تشبهت بالساعين عزماً وأهبة
فأخرني أني عجلت وأبطأوا
وثقلت من خطوي أناة وحكمة
فقال خلي: شد ما تتلكأُ!
عانى حمزة، في سنواته الأخيرة، إضافة إلى قسوة الوحدة، ومرارة الإحباط، من اعتلال صحته، إذ خبا نور بصره حتى انطفأ، ولزم المشفى مدة، قبل أن يرحل عن الدنيا في 1972، مُخلفاً وراءه، خمس بنات، ودرراً من القصائد، وغرراً من الرسائل، وجواهر من الآثار، ومن المؤسف أن عبقريته لم تقابل في حياته بما يليق بها، ما دعا الأديب عبد الفتاح أبو مدين، لاعتبار أنه «شاعرٌ ظلمه عصره».
في كتابه «رفات عقل»، وهو شبه سيرة ذاتية، يقول حمزة: «كانت حياتي قلقة وما تزال، لأني لم أتمتع قط بحريتي، واختياري، على النحو الذي يرضي عقلي وطبيعتي، وكنتُ أعتقد القدرة على المرونة والتكيف، لأني محروم من الذكاء، إلى حد التجرد. وكانت الوحدة بين عقلي، وخلقي، تُملي عليّ منهجاً معيناً من السلوك، يشبه قيداً لا يلين، فأنا تحت وطأة هذا المنهج، أؤثر الهزيمة النظيفة، على الانتصار القذر… وتتقزز نفسي من النضال الحقير، ربما لأن الذكاء ينقصني كسلاح طبيعي للنضال في مثل هذه المعارك، وربما لأن غلبة الخُلُق تُوهِن العقل، وتحد من انطلاقه».
مواهب حمزة شحاتة المتعددة، امتدت لتشمل اتقانه العزف على العود، وربما لا يعلم كثيرون أن أبيات شحاتة حاضرة بتميز في الموال الحجازي، ومنها:
بعد صفوِ الهوى وطِيبِ الوفاقِ
عَز حتى السلامُ عند التلاقي
يا مُعافَي من داءِ قلبي وحُزني
وسليماً من حُرقتي واشتياقي
هل تمثلت ثورة اليأسِ في وجهي
وهول الشقاءِ في إطراقي؟!
هبكَ أَهمَلتَ واجبي صَلَفاً منكَ
فما ذَنبُ واجب الأخلاقِ؟!