هل بلغكم، أيها السيدات والسادة، عن رجلٍ واحد، كَرَّمَ أكثر من 530 رائداً ومبدعاً، من الأدباء والمثقفين والعلماء ورجال الأعمال والوجهاء، بالسعودية والعالم العربي، من خلال منتدى ثقافي أدبي أسبوعي، أقامه على مدى عقود أربعة؟!
وهل سمعتم، أيها الكرام، أن فرداً، والفرد لا يكون إلا واحداً، صنعَ المرجع الأكبر، والأهم، الذي وثَّقَ حياةَ وأفكار مثقفي السعودية والخليج والعالم العربي المعاصرين؟!
لقد تصدى صاحبنا، لنتاج معظم أدباء السعودية الأوائل، فجمع شتات هذا، وأحيا ما اندثر من مؤلفات ذاك، واستكتب ثلة من المختصين ليكتبوا دراسات رصينة عن مجموعة من الشعراء والأدباء، الذين عاشوا مرحلة تأسيس السعودية في الثلاثينيات الميلادية.
أحدثكم عن الرجل الذي أنجَزَ عمَلاً ضخماً وهائلاً، عجزت عنه المؤسسات والمراكز، الحكومية، والأهلية. إنه لعمل يقتضي سعةً في الرزق، واتساعاً في الأفق، وسخاءً في العطاء، وجوداً بالنفس، وكرماً بالوقت، ووعياً بالغاً بقيمة المثقف، وقِيَم الثقافة، وإيماناً راسخاً بأهمية التوثيق لحياة العلم، وضرورته ورفعة شأنه، وصدراً واسعاً وسليماً، يُضَاعَفُ بانتظام، ويُرَاكِمُ على الدوام، وجوه العلاقات، وشبكات الأصدقاء… وتعدد المعارف لتشمل الناس، وآدابهم، وأخلاقهم، وقِيَمهم. اجتمع كل ذلك في شخصٍ واحدٍ، كان جواداً مقصوداً، وكانت داره عامرةً بزوّار، معظمهم نخبة القوم، ووجوه المجتمع، أعلام المثقفين والمفكرين والعلماء السعوديين. ولأن الجود ليس له حدود، فقد شملت قائمة المُكَرَمِين، وجوهاً من أعلام الثقافة في الدول العربية والإسلامية.
صاحب سيرتنا التي نُنِيخُ رَكائبنا عندها اليوم، هو المثقف ورجل الأعمال السعودي، الأستاذ عبدالمقصود محمد سعيد خوجة، الغائب الحاضر… الرجل الذي اعتلّت صحته، أقال الله عثرته، فاحتجب عن الناس، وغاب تكريمه لغيره، ونرجو ألا يغيب تكريم غيره له، اليوم أو غداً، تقديراً لأدواره الجليلة، ورداً لبعض ما قدّم لبلاده، ولثقافتها، وآدابها. يتأوه بعض محبوه، فيقول: نُسِي عبدالمقصود! وأتساءل: أَوَيُنسَى ذو فضل مثله؟! ويتنهد فريق منهم، فيتمنى أن تُخَّفَفَ عن الكريم الحُجُب، وأن يزيل الله عنه كل تعبٍ ونَصب، فيتسنى لأهل الأصل، ردُ بعض الفضل.
ويقول آخرون: إن المحصلة -وإن اختلفت الآراء- واحدة، فالصرح العظيم الذي أقام بنيانه عبدالمقصود خوجة، يُوشِكُ أن يُصْبِحَ أَثَرَاً بعدَ عَيْن، إِثْرَ رَزِيَةِ اعتلال صحة الرجل الشهم، واحتجابه، أو حجبه، عن أصدقائه الخُلَّص! أتمثّل قصيد الشاعر العراقي الكبير، محمد مهدي الجواهري، (وهو ممن شملهم تكريم عبدالمقصود خوجة)، من رموز الثقافة والفكر والأدب، لأقول بلسان «ثلة المؤمنين بقيمة التوثيق»، لصاحبنا:
يا مُبْرِئَ العِلَلَ الجِسَامَ بطِبّهِ
تَأْبَى المروءةُ أنْ تَكُونَ عَلِيلا
أنا في صَمِيمِ الضَّارِعينَ لربِّهِمْ
ألاّ يُرِيكَ كَرِيهةً، وجَفِيلا والضَّارِعَاتُ مَعِي،
مَصَائِرُ ثُلَّةٍ ألاّ يَعُودَ بِها العَزِيزُ ذَلِيلا
فلقد أَنَرْتَ طريقَهَا وضَرَبْتَهُ مَثَلاً شَرُودَاً يُرْشِدُ الضِّلِّيلا
وأَشَعْتَ فيها الرأيَ لا مُتَهَيِّبَاً حَرَجَاً، ولا مُتَرَجِّيَاً تَهْلِيلا
نعود إلى مآثر عبدالمقصود، لنعلم أنه ابن عائلة علمية وأدبية عريقة. سُمِّيَ على جَدِّهِ، عالم الشريعة، خِرِّيج الأزهر، والجَدُّ هو من اكتسب لقب «خوجة»، ومعناه: الأستاذ، باللغة التركية، فشمل الأسرة كلها. كان الأتراك يُهيمنون بثقافتهم وسطوة عسكرهم على كثير من مناحي الحياة بالحجاز، ومنها التعليم، بحكم تبعية الأشراف للباب العالي بالأستانة التركية.
فتبنى الجَدَّ عبدالمقصود -رفقة بعض الفضلاء- دعوة تأسيس مدرسة عربية بالحجاز، تقاوم فرض الثقافة التركية قسراً على أبناء العرب في بلاد العروبة، وهذا ما تحقق للجد وأصحابه. أما والده محمد سعيد خوجة، فكان من أعلام الوطن النجباء، وحملة مشاعل الأدب والثقافة، ورُوّاد الصحافة السعودية. رأس تحرير صحيفة (أم القرى)، ولم تكن مجرد صحيفة، بل كانت مؤسسة ثقافية، فمطابعها تقذف كل جديد من إصدارات شباب الثقافة السعودية وشيوخها، ما جعلها تصبح ملتقىً ثقافياً، استظل بفيئه جمع من الأعلام، منهم: عزيز ضياء، وحمزة شحاتة، وأحمد عبدالغفور عطار، وآخرون.
صبغ الأستاذ محمد سعيد خوجة الصحيفة بصبغة مَيَّزَتها بين نظيراتها، آنذاك، فكان النشر فيها قيمة، إذ نشرت المقالات، والقصائد، والأبحاث، وأسهم خوجة بنفسه في كتابة بعضها، مُشرعاً أبواب الجريدة لِنتاج الكُتَّاب والأدباء والشعراء والمفكرين. في بحبوحة النُبل تلك، ترعرع عبدالمقصود خوجة، الذي وُلِدَ ونشأ بمكة المكرمة، ودرس بمدارس الفلاح، ثم أكمل تعليمه، بالمعهد العربي الإسلامي بدمشق. والتحق بعد ذلك، بالوظيفة الحكومية، في فترة تاريخية حساسة، وفي مجالٍ مألوفٍ، سلك دربه من قبله أبوه وجَدُّهُ.
في مطبخ القرار الحكومي
في نهايات عهد الملك سعود رحمه الله، كان عبدالمقصود خوجة، مديراً لمكتب مدير المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر، وزير الدولة، الأستاذ عبدالله عمر بلخير (1915- 2002). بلخير، قامة وطنية فارعة، استهل حياته المهنية، بالترجمة للملك المؤسس عبدالعزيز رحمه الله، ثم صار من خاصة مستشاري الملك سعود، وواصل الدور ذاته مع الملك فيصل. حيثما انتقل عبدالله بلخير، اصطحب معه عبدالمقصود، ساعده الأيمن، ومدير مكتبه الخاص. وجد خوجة نفسه، في مصنع اتخاذ القرار، وسط دوائر الخاصة، الذين يعرفون الكثير، مما لم يدوّن، ولا يُنشر، لاعتبارات كثيرة، ليس هذا موضع تفصيلها.
لم يكن عبدالمقصود، رجل صحافة وثقافة فحسب، بل رجل دولةٍ أيضاً، مُتقِنٌ للأدوار الديبلوماسية، إذ عمل مندوباً للديوان الملكي، في المفوضية السعودية ببيروت، ثم مديراً للمكتب الإعلامي في ذات المفوضية بعد أن أصبحت سفارة. وعاد لبلاده، ليتقلد منصباً رفيعاً، هو إدارة الإذاعة والصحافة والنشر بجدة. وكلما اتسعت تجربته، وازدادت معارفه وعلومه، تضاعَفَ شغفه وولعه بالتفاعل الإيجابي، وزادت رغبته بالمساهمة في صناعة الثقافة والإعلام وتطوير أدواتهما، في وطنه.آنذاك ساهم عبدالمقصود خوجة، في صناعة حدث ثقافي مهم، إصدار صحيفة جديدة، هي جريدة (عكاظ).
لقاء صحفي جريء مع الملك فيصل
في فبراير 2007 استضافت اثنينية عبدالمقصود خوجة، الدكتور: هاشم عبده هاشم، رئيس تحرير (عكاظ) السابق، لفترتين. جرياً على عادته، ألقى المُضيف، خوجة، كلمة ترحيبية بالمُحتفى به، كاشفاً معلومة فاجأت جُلَّ المتابعين والمهتمين، بقوله: «مثلي ممن امتهن الصحافة، بل ورثها شغفاً وعطاء وبذلاً، يعلم من تاريخ (عكاظ) ما أحسب أنه جدير بالملاحظة والتسجيل، فقد شرفت بمعاصرة نشأتها حين كان يحدب عليها الأستاذان الجليلان: أحمد عبد الغفور عطار، صاحب الامتياز ورئيس التحرير، وعزيز ضياء، المدير العام، رحمهما الله، وكنت آنذاك مديراً للإدارة العامة للإذاعة والصحافة والنشر، فانطلقتُ باذلاً قصارى جهدي وعلاقاتي الوظيفية، للحصول على تصريح الجريدة، وباعتباري لا أحب شهادة الموتى، فيشهد على ما أقول السيدة الفاضلة أسماء زعزوع أرملة أستاذنا عزيز ضياء، والسيدة الفاضلة ابنته دلال… والأهم حصولي على حديث من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، رئيس مجلس الوزراء آنذاك، الذي زيّن العدد الأول من (عكاظ) الذي صدر بتاريخ 3 ذي الحجة 1379ه الموافق 28 مايو 1960م.
هذا الحوار، له وجوهٌ متعددة، يتنازعك حُسنهُ، بين عبقرية الإجابات الفيصلية، التي لم تكن لتخرج للنور، لولا احترافية الأسئلة وجرأتها، وتقدم أفكارها بالنسبة لحوار يُجرى عام 1960! أسئلةُ حِوار الفيصل، في أول أعداد (عكاظ)، كانت حيّة وباقية ومتصلة بالشأن الثقافي، إلى اليوم، وتعكس اهتماماً قديماً لخوجة بالحالة الثقافية، وإكرام الأدباء، وإنزالهم منزلتهم. ولم أصل لسبب عدم نشر الجريدة اسم خوجة على طُرّة حوار مع شخصية بحجم الفيصل، يتمنى كل صحفي أن يظفر بسبق كهذا لم تنشر اسم المحاوِر، مع أن صيغة الحوار كانت روح المحاور فيها ظاهرة، ولعل عدم كتابة اسم عبدالمقصود بوصفه محاوراً لولي العهد رئيس مجلس الوزراء، هو الذي جعله يؤكد روايته مستشهداً بالسيدة أسماء زعزوع، الإعلامية، الطلائعية، زوجة الأديب الكبير عزيز ضياء، وبابنتها. سأل المحاور الأمير فيصل عن سبب عدم منح الحكومة مساحات للحرية مع الكتاب، على غرار ما فعلته مع الصحافة، مشيراً إلى أن تشديد الرقابة داخلياً يجعل المؤلف يطبع كتبه خارج السعودية، تفادياً لصرامة الرقابة، فتذهب الفائدة للمطابع ودور النشر الخارجية ويُحرم منها الاقتصاد الوطني.
وطالب المُحَاورَ، الأمير فيصل (الملك لاحقاً) خلال الحوار بتوفير امتيازات للصحافة والصحافيين، على غرار معظم دول العالم، بداية من دعم التوزيع في الخارج مجاناً أو بأسعار رمزية، ليصل الصوت السعودي إلى كل مكان، كما طالب الحكومة بإعفاء الرسوم الجمركية المفروضة على احتياجات الصحف المهنية، وتخفيض أجور سفر الصحافيين والعاملين في المؤسسات الصحافية في كل مواصلات الدولة، ونقل البريد الخارجي الجوي وغير الجوي للصحف بالمجان. كما سأل عبدالمقصود الفيصل عن نصيب الأدب من اهتمام الدولة، وعن آخر كتاب قرأه ولي العهد آنذاك، وكان: كتاب (لمحات من التاريخ)، وهي رسائل نهرو إلى ابنته. كما سأل خوجة الأمير فيصل عن سبب عدم تفريغ الدولة للأدباء، ودفع رواتبهم، تفرغاً للإنتاج الفكري، الذي يعود على البلاد بالنفع، وختم بسؤاله عمن يعجب الأمير من الشعراء؟
فأجاب: بأنه يقرأ لكل شعراء العصور، لكن الأثير على قلبه، طرفة بن العبد، مفصلاً الأسباب الأدبية والفنية، التي وضعت طرفة عنده في تلك المكانة بين نظرائه من الشعراء الفحول.
الانتقال من الحكومة للعمل الخاص
ثم يقرر عبدالمقصود خوجة، أن يترك العمل الحكومي، منتصف الستينيات الميلادية، باتجاه عالم المال والأعمال، فيفتح الله عليه بَسطَةً في الرِزق، وسعة في الأفق، فما أنسته التجارة الثقافة، ولا أبعده المال عن الأدب، وما جعلته الثروة قاصراً عن إدراك ثراء المعرفة، وغِنى الصحافة والآداب، تلك التي وجد فيها نفسه، واتصل بها حبله، منذ نشأته.
ولأن الشاعر القديم قال: وخير الناس ذو حسب قديم أقام لنفسه حسباً جديدا
فإن عبدالمقصود، المتكئ إلى حسبٍ قديم، متمثل في جده الفقيه، ووالده الصحافي الأديب، أقام لنفسه، حَسَبَاً جديداً، تمثل في (الاثنينية)، الصالون الفكري الأسبوعي الأكثر شهرة في السعودية. (الاثنينية) أطبقت شهرتها الآفاق، وبدأت مطلع الثمانينيات، قبل نحو 40 عاماً، دشّنَها خوجة بتكريم الرائد السعودي الكبير، الأديب، عبدالقدوس الأنصاري (ت 1983) مؤسس مجلة المنهل العريقة، وصديق والده.. وخلفه في تحرير (أم القرى).
ولم يترك عبدالمقصود أحداً من أصدقاء والده، الذين ظلوا على قيد الحياة، إلا وكرّمه، ولم يجد حرجاً في ذلك فليس بين صحب أبيه إلا مفكر أو مثقف أو كاتب أو إعلامي. احتفى في السنة الأولى من اثنينيته بالشاعر طاهر زمخشري (ت 1987)، ود. عبدالمجيد شبكشي، وعبدالله بلخير، ومحمد حسين زيدان (ت 1992)، وحسين عرب (ت 2002)، وعزيز ضياء (ت 1997)، وحسين باشا سراج (ت 2007)، والسيد أحمد عبيد (ت 1994)، ومحمود عارف، وأحمد العربي (ت 1999)، وعبدالعزيز الرفاعي (ت 1994)، وطارق عبدالحكيم (ت 2012)، وغيرهم كثير…
(الاثنينية) منتدى الوفاء والعطاء وخزّان معلومات الرواد
توالت الأسماء: روائيون وشعراء، مثقفون وأدباء، إعلاميون وسفراء، أمراء ووزراء، أرباب فكر وعلماء دين ورجال دولة، يُجمِعون على أنّ حفاوة عبدالمقصود تبلغ الغاية، وأن كرمه الفيّاض لم يكن في المؤادمة فحسب، وما أحسنها، ولا المباسطة فقط وما أجملها، ولا في الحفاوة وحدها وأكرم بها، ليس بكل ما سبق فحسب، بل الإضافة إلى ما لا تخطئه عين، من شغفه بتفاصيل العناية بضيوفه، وترتيب حفلهم، وإلمامه الكامل بكل التفاصيل الصغيرة، قبل الكبيرة، مروراً بإعداد كلماته، التي يلقيها بلغة سهلة ممتنعة، كأنما ألفاظها تنساب من نهرٍ جارٍ، وحين تمعن في تأملها، يساورك شكٌ يشبه الجزم، لدقتها: أنها منحوتة من صخر!
كان عقله يضبط كل شيء: اختيار الضيف الرئيس، والإعلان عنه قبل فترة، ودعوة مجايليه، وتقديمه، وسؤال المختصين والرواد أن يدلوا بشهاداتهم عن الضيف وفكره ومنجزه… وأهم ما سبق، وكله مهم: الحرص على توثيق اللقاء، صوتاً وصورةً ونصاً، ثمّ متابعة طباعة اللقاء مفرغاً من كلام ملفوظ، إلى نص مقروء، بلغة بيضاء، لا تغير المعنى، ولا تبقي المنطوق على عِلّاتِه، بل تحرره من أجل نشره في كتب لقاءات (الاثنينية) التي طبع منها 22 جزءاً، أجزم بأنها أكبر موسوعة ببلوغرافية للمفكرين والأدباء والصحافيين والمبدعين في السعودية.
الرجل الذي حاور قامة بحجم الفيصل في 1960 مطالباً بحرية الكتاب، أسوة بتحرير الصحف، وتفريغ الأدباء والمفكرين، لا بد أن يكون متقدماً بخطوات عن غيره، لذا أنشأ خوجة موقع (الاثنينة) على الإنترنت، وأتاح عبره مئات الساعات التوثيقية، المصورة، والنصوص المكتوبة، فلا تقال في (الاثنينية) شاردة ولا واردة لا توثق، وكأنما أراد الوجيه خوجة بذلك أن يثبت للأجيال، أن الثقافة الشفاهية حرمتنا الكثير من إرثنا، وأن من ملامح تقدم المجتمعات وتطورها، اعتمادها على الثقافة المكتوبة، التي ينقلها كل جيل إلى من خلفه، دون سقط أو تحريف أو تبديل.
لا أبالغ بالقول: إن الرجل صنع مكتبة بصرية، وأرشيفاً توثيقياً لتاريخ الآداب والفنون والعلوم في السعودية الحديثة، لا تملكها مؤسسات متخصصة، طبعت في 22 مجلداً وربما أكثر، ووثقت ونشرت للعامة مجاناً مئات ساعات الفيديو المصورة، وما اكتفى بذلك، بل نشر نتاج الكبار من الشعراء والأدباء السعوديين في 96 مجلداً، جُلُها، أصبح أثراً بعد عينٍ، حتى نفض صاحبنا عنها الغبار، معيداً تقديمها في حلة قشيبة، وبطباعة راقية، مكلفاً فُرقاً مختصة بالعمل على المشروع، تحقيقاً ودراسة تحت مباشرة على عينه.
كل ذلك صُنِعَ بِحُبٍ وشَغَفٍ وَمَحَبَّةٍ وإتقانٍ، وحفاوةٍ، وترحيبِ، وتواضعِ رجلٍ كبير، له من اسمه نصيب، فقد كان عبدالمقصود، مقصوداً كل اثنين، يغرف المتلهفون للفكر، والأدب والثقافة، والوفاء، من بحار التجارب والمعارف، التي شَرّعها خوجة، شفاه الله.
إن لم تكن هذه هي الوجاهة، وتلك هي الأدوار الثقافية التي يقوم بها رجال الأعمال، فماهي إذاً؟! يحكي خوجة، في حديث صِحافي، عن بعض جهوده، إعادة إحياء تراث الأدباء السعوديين الرواد، بعد أن أوشك معظمه على الضياع، فيقول:(استطاعت «الاثنينية» التغلب على كثير من الصعوبات والتحديات التي واجهتها، منها عدم تعاون بعض أبناء الأدباء، أو ضياع الإرث الثقافي الإبداعي بسبب عدم الاهتمام بقيمته العلمية، وأحياناً يصل الأمر ببعض الأبناء ببيع المكتبات الخاصة بآبائهم بثمن بخس!
وبإصرارنا على النجاح، استطعنا التغلب عليها بالتواصل المستمر والإلحاح، لأن هدف «الاثنينية» جمع وتوثيق الأعمال الأدبية للرعيل الأول من الأدباء السعوديين الذين تناثرت أعمالهم مما صعب على المهتمين والباحثين الحصول عليها، وهو هاجس ظللنا نعاني منه بِشِدَّة، ولكن كان التوفيق يحالفنا لأننا لا نبتغي من وراء ذلك منفعة مادية أو معنوية). (الشرق الأوسط 24 مايو 2014).
من يعرِف جيداً عَلّامة الجزيرة العربية، الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، يجزم بأنه يحترف صنعة الكتابة، كما جواهرجي فَذّ، ولأن الكلمة حرفته، والمعاني ملعبه، فهو يَزِنُ كل كَلِمَة بميزانٍ دقيق، حتى تملأ قالب قصده، فلا تزيد قليلاً ولا تنقص.
كتب العَلّامة الفَهّامة، حمد الجاسر، عن عبدالمقصود خوجة، معتبره(أصبح بأفعاله مثالاً ناصعاً، يُبرِزُ واجهةً مشرقة للثقافة في بلادنا، وللتعبير عما يتصف به أهلها من كريم الخلال، وحميد الصفات، فقلّ أن يزور البلاد عَلم من أعلام الفكر أو الأدب أو غيرهما إلاّ ويفتح له قلبه مرحباً به، داعياً إياه لحضور ندوة تضم الصفوة من المثقفين، ولا يُبرِّز أحد من أبناء بلاده في جانب من جوانب المعرفة، إلاّ سعى للاتصال به، ليضفي عليه من بره وتقديره في «اثنينية» ما هو جدير به، ولا يعلم بمؤلف نافع في حاجة إلى النشر -مما يطلع عليه- إلاّ بذل ما يستطيع لذلك، بحيث لا يتسع الحديث إلاّ للتمثيل -لا للتحديد- عما قام بنشره).
لقد صنع خوجة ذاكرةً حية لثقافتنا، وفعل ما يبقى، أنشأ الديوان للشعر والأدب، فصار كمن يعلّق المعلقات، ويوثق أيامنا التي كُنا نطلق حكاياتها في الهواء، فيسارع هو إلى توثيقها… وأسألُ بِمَحَبَةٍ وألمٍ وَحَسرَةٍ: من سيوثق، لرجُلٍ، وَثّق الكثير من حياتنا الثقافية والفنية والفكرية والاجتماعية، واحتفى برموز المرحلة، وإنتاجهم الفكري؟!
ونحن نستذكر الرمز الوطني، عبدالمقصود خوجة، لا يسعنا إلا أن نستحضر ما عَبّر عَنه في حوار صحفي (الشرق الأوسط، 24/5/2014)، وأتمنى ألا تكون قراءة للمستقبل، إذ قال:«تاريخنا مع الأسف مُفَّرَغٌ من التدوين، ومَليٍءٌ بالتناسي»! إنها جملة موجوع، لكنها عبارة مفجعة مؤلمة كالسياط، بل أشبه ما تكون بخِنجرٍ يمخر عباب وفائنا، ويثخن في قيمنا، فيُقّطِعها إِرَباً! موقع«الاثنينية» على الانترتت -الموسوعة الأضخم لتراث رموز السعودية- بات عاطلاً عن العمل، لا يقدم لك حرفاً، وكأنه يبكي غياب بسمة صاحبه، والمنتدى الذي كان يستضيف الأعلام، ويُكَرِّم أهل المكارم الكرام، كأنما اندثرت معالمه.
والرجاء، كل الرجاء، أن تتصدى جهات ثقافية رسمية وأهلية، للعمل على إعادة إحياء ما أحياه عبدالمقصود خوجة، شفاه الله، والأمل في نسله الكرام، أن يوفقهم الله لِبِرِ أبيهم، وأحسبُ أن من أهم البر به المحافظة على إنجازاته، وهي متعة لا تدانيها متعة عند شهمٍ، مثل عبدالمقصود خوجة، الكريم… المنحدر من بيت مكارم.
* السفير السعودي لدى الإمارات