قلتُ قبلَ سنواتٍ، إننا في السعودية إذا أردنا إبهار العالم، لا نحتاج، إذ نقدّم بلادنا، سوى إظهارها كما هي!
فنعرض تنوّعها، ونعكس ثقافاتها، ونُبرز إنسانها العظيم، ونحتفي بروحها الساحرة. فظلّ كثير من الواقعيين يقولون لي بِأسىً: إنَّ هذه التَّشكيلة السَّهلة التي نُطالِب بها، صعبة التنفيذ، فكيف تُوجِزُ -يا رعاك الله- هذا المعنى البسيط إلى الوجود، وتُحسن عرضه! ولعمري إنني كِدت، لولا حسن ظني بطموح شباب بلادي، أن أفقد الأمل، إلا أنني ومُذ رأيتُ (جناحَنا السعودي) عرفت موقِناً: (ليس هناك ما لا نستطيع فعله)!
لو أنّ الأفكار والأماني والآمال العريضة، تنجمع في شخص رجلٍ، ولو أنّ المشاريع الجاذبة والنماذج العبقرية تتمثل في روح، فإني لزعيم بأنها تجسّدت في هذا الجناح الملكي السعودي في معرض إكسبو 2020 العالمي الذي تستضيفه دبي. حيث عبقريّة المكان والزمان، وتاريخيّة اللحظة، فهنا: الروح الخضراء تشع بالأمل. في مكانٍ ليس عظيمًا فحسب، بل إنه من أعظم ما رأته عين، وما خطر على قلب بشر! أفلا يتشوّق من هو مثلي، لمصافحة هذا الجناح العريض!
فهلم معي نرى ملاحة ترتيبه، وزين تنسيقه، وجمال عرضه، وبهاء روحه. فإنه يشبهنا كلنا، ويعرضنا كما نحن، لمن أراد.
إذا تهت بعد الوصول إلى «أرض الفرص»، فانظر إلى مبنىً ضخم، رسائل جنبه الأيمن المضيئة ترحب بك بعباراتها المبهجة في لوحة تقنيّة تقول: أهلاً بك فقد وصلت. وإذا استقبلته رأيته يميل إليك ليحتضنك بشاشةٍ عملاقة، وإذا استدبرته رأيته يهمّ بالتحليق إلى عنان السماء، بل هو السماء، ذات تواضع. صمم ليقول لك، جئنا من البلاد التي قال وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان: (طموحنا عنان السماء).
لن تحتار في البحث عن المباني، فهو ليس مبنى الجناح الأكبر من بين مئات الأجنحةِ فحسب، بل إنه المكان الذي يؤمّه 36% من زوّار معرض إكسبو 2020 في دبي! ولا تبتئس خوفًا من الازدحام، فإنّه يسعهم، ويزيدهم سعةَ صدرٍ وروح، بما فيه من رحابة أفكار وبشر!
الذكاء، كل الذكاء، أن تصنع بما لديك ما يعبّر عن ما تريده، فأنت تبغي أن تقول للناس: ممِن أنت، وأين أنت، ولماذا عليهم أن يقتنصوا الفرص لمشاركتك الرحلة. ومتى كانت الأسئلة واضحة، انضبطت الأجوبة، وامتلأت الروح بالإبداع دون تشتيت أو فوضى.
فمن أنت أيها الجناح! ومم أنت! وإلامَ تدعو الزائرين، وباسم من؟
إذا دخلت، فانس نفسك، فقبل الخطوة الأولى، في الساحة ستأخذك روح المكان إلى حيث أرادت، تفعل ذلك بتقنية كأفلام الخيال العلمي، والواقع الافتراضي المعزّز، ففي الساحة المفتوحة، تمهّد ذلك شاشةٌ تحجب السماء، بصورٍ الصحراء، والبحر، وأفلام قصيرةٍ، لهمم طويلة ومقتطفاتٍ بديعة وخلابة تغطي ربوع المملكة كلها، فتراها كلوحةٍ عملاقة على شاشة مساحتها 1,320 مترا مربعاً، تعرض المحتوى البصري بدقة عالية تضاهي الواقع، فتختفي بحسنها السماء، فإذا أطرقتَ رأسك رأيت أرضيّة تفاعلية بألوانها الزاهية، والباحة في النهار تزدان بمنحوتات خزفيّة تلهّي الأطفال، عليها نقوش تاريخية، تصلح للتذكار.
تصميم المبنى من الخارج يتناسق في تشابكه، على طبقات أحسبها بُلغتي، فأجدها خمسة، ويحسبونها بعلمهم فيجدونها أربعة، تنفسح لإطلالة على فنون الهندسة المعمارية، محفّزة ومثيرة، تعمل فيك عمل المغناطيس على الحديد، والضوء على الفراشة، بيد أنّها لا تحرقك! بل تنيرك وتثير فيك المعرفة، فلعمري كم هو صعب أن تقف عند أطلال هذا المستقبل دون أن تلجَ إلى مطالعة عالم الفرص في أرض التاريخ والمستقبل، فتنظر إلى رحابة العيش وسيرة الحياة ونهاية الأمل. وليس غريبًا أن تعلم أن الجناح المزوّد بـ 650 لوحة شمسية، تم تصنيعها بالسعودية، حاصلٌ على الشهادة البلاتينية في مجال الطاقة والتصميم البيئي (LEED)، ويتزيّن بثلاثة أرقام قياسية في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بأطول ستارة مائية تفاعلية، وأكبر شاشة رقمية تفاعلية، وأكبر أرضية ضوئية تفاعلية والتي تتضمن 7798 إضاءة LED. ولو كانت الهمة والجاذبية تقاس بأرقام، لفاز بهما أيضاً، ولا غرو أن يكون الأكثر زوّارًا.
إذا وقف أحد قبالة الجناح، فلن يستطيع أن يقاوم سِحر وإغواء المكان، وفي الاستقبال قبل الدخول، نافورة استقبال أو قل شلالاً، ماء يتساقط على حافة دائرة، يقف عليها الزوّار، يلعب الصغير ويبتسم الكبير، ويكسر الرذاذ حرارة الجو، فتنهبط بفضلها درجة الحرارة لدرجات. فتجد الصفوف المزدحمة في الخارج، أكثر رغبة واستعدادًا للتجربة.
وأحسب أن العروض المائيّة في الاستقبال، قصدت ونجحت في كسر الصورة النمطية عن الصحراء والرمال، وليس في الصحراء عيب، ولكنّ العيب أن يلغي السامع عن المملكة كلّ صورة ويستبقي واحدة. لذا فإنّ أوّل ما يحدثك المعرض عنه، هو ما لا تعرفه. نعم: عروض مائية، وشاشة LED مقوسة بمساحة 68 متراً مربعاً، عليها، تتلقاك البلاد بألوانها، وتلفّك بالزهور وبالخضار، فترى الأودية، والجبال، والسهول والثلوج، وبين كل جمال وجمال، ترى اللون الأخضر البهي، والندى حتى لتشتهي أن تبلل يديك! وقبل أن تنتهي من الإشراف على الأيفاع صبابةً وتعلقًا بالجبال، تأتيك دعوة لطبيعة أخرى، لأنقى مياهٍ ترى فيها الشعب المرجانيّة، هناك في غمار البحر الأحمر، حيث تطفو جزر فرسان، أرخبيلاً يوافق بين اليابسة والمياه. وتتلون الشاشة، ويطول الصفّ وأنت تستمتع بالنخيل والطيور والأطفال يلعبون، فلو كنت غواصاً، فستشهق لبهاء فرسان، ولو كنت مزارعاً فستحنّ مع نخيل الأحساء إلى الأرض، وتغرم بالنجوم لو كنت فلكياً، وإن كنت راعياً لماشية فقلبك سيهفّ لخضار الأرض وامتلاء الضرع، وإن كنت صاحب صيدٍ، فلك أن ترى السِرب الذي عناه امرؤ القيس، حين قال: فعنَّ لنا سربٌ كأنَّ نعاجَه عَذارَى دَوارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
فكلها، مرسومة على الشاشة، أما لو كنت شاعراً، وإن لم تكتب بيتاً، فإنّ هذا الجناح صنع لك!
بعد أن ينتهي الاستقبال، وتنمحي التصوّرات الأولى. استعِد لتقرأ على جدارين تاريخاً مختلفاً، لأمةٍ عتيدة، عاشت كل الأزمنة، واستنشقت كل الهواء، لتصل إلى ما وصلته من نضجٍ سياسي واجتماعي ورخاء اقتصادي. ولتعرف عن المستقبل، فإنّ طريقك هو سُلّم التراث!
سلم كلما وضعتُ قدمي في أوله ابتسمت لرسالته العبقرية، فهذه البلاد التي تقدّم نفسها اليوم في سِباق المستقبل برصيدٍ وقوة دافعة تاريخية: فكلما ارتقت، وصلت إلى مجدها الذي كان. فعزها المستحق: موروث وتليد، كلما ارتقينا التقينا بذاتنا، وعرفنا قيمتنا. فتاريخنا منذ آلاف السنين، هو مستقبلنا الظافر. ألم يٍعدّل الملك عبدالعزيز رحمه الله بيت الشعر إذ قال: لَسنا وَإِن أَحسابُنا كَرُمَت مِمَّن عَلى الأَحسابِ يَتَّكِلُ
نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا تَبني وَنَفعَلُ (مِثلَ) ما فَعَلوا
جاعلها: ونفعل (فوق) ما فعلوا…
على سلم التراث هذا يعلو 14 معلماً، ستة منها مسجلة في مواقع التراث العالمي في اليونسكو، تؤرخ حقب التاريخ القديم لآلاف السنين، والقريب للمئات منه، وكله متصل ببعضه ويعكس هيبة هذا البلد العظيم ورسوخه. وحتى الجغرافيا تحضر بمعالمها مقدمةً رسالتها. فيبدو ممر القارة بالأحساء، ونقوش جبل المنجور في حائل، والحجر بالعلا وحي الطريف بالدرعية، وبيت نور ولي في جدة البلد.
ترى في الجدارين المتقابلين، حكاية ورواية مقتطفة، فيها لمحة للتاريخ وأثره، والزمان وفعله في الناس والمكان، وأثر الفنّ في الحفاظ على رسائل الحضارة، ولا يهمل عوامل التعرية والتجوية وأثرها في الجبال والخيال، أمطارٌ تنحت جبل القارة في الأحساء، وإنسان ينقش على جبل المنجور أثره ورسالته بنقوش، جعلت الجبل أضخم متحف مفتوح للنقوش الصخرية، منذ الفترة الثمودية!
والعلا على الجدار، تفوز بالسحر والغموض حيث يجذب موقع الحجر الأثري النظر، بصورٍ زاخرة بالإشارات، عن حضارة الأنباط. وصعودًا تجد أعمدة الرجاجيل المتراصة المنحوتة، وعمرها سبعة آلاف سنة!
فأية عراقة في القِدم وأصالة في التاريخ بعد هذا!
لا يقتصر سلّم التراث، أو معراج التاريخ هذا، على شواهد السنين الممتدة قبل الميلاد، وومضات الحضارات المتعاقبة، بل ينقل الزائر إلى سكانها وتمدنهم وعيشهم، فيمر بحصونٍ وبيوتٍ وقلاع وأحياء، ومساجد: مثل مسجد عمر بن الخطاب الأثري في الجوف ببنيانه العتيق وتحوّلاته المثيرة، وحوى قصورًا مثل قصر العان في نجران ببنائه الطيني وطرازه المميز. وقصر إبراهيم في الهفوف، وقد شيّد عام 963هـ، جامعًا بين الطرازين المعماريين الإسلامي والعصري، والمجسمات والصور، لا تبرز وحدها، بل فيها حياة تشعرك بها المحتويات البصرية، بصورٍ للناس يدخلون في القصور ويخرجون، ووعل يتناطح على الجبال. وبينما تندهش، فإذا أنت تمر على بوابة سوق القيصرية أحد أقدم الأسواق في الجزيرة العربية. والزمان عابر والمكان باق والإحساس لا يصوّر أو يقدر بثمن!
ومنه تجد مجسمًا لحيّ الطريف في الدرعية، عند أبنية القرن الخامس عشر، وأمامها فيديو لرجالٍ يؤدون العرضة، في قلب نجد. ثم تنتقل إلى جدة حيث بيت نور ولي (جدة التاريخية)، وعمره أزيد من 150 عامًا، تدهشك ألوان رواشينه ونوافذه الخشبية! وكأنّه بقي صامدًا ينتظر اليوم الذي ينجمع مع إخوانه في سلم الزمان والمكان هذا.
وفي مجسم المصمك، يمر السّلم، وعليك أنت تقِف طويلاً فتأمّل الرياض، حيث القصر بشموخه التاريخي العريق، وبنائه الطيني القديم في وسط المدينة، يروي التاريخ منذ الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي آل سعود، إلى أن تحوّل إلى متحف متخصص في مراحل توحيد وتأسيس المملكة العربية السعودية. وإلى اليوم يؤمّه كبار الزوار. ويقودك إلى الناس وإلى الحاضر والمستقبل!
ثمّ ماذا؟
قاعة من أعجب ما ترى، اسمها: الأرض والناس، تعرض الصلة بين الجغرافيا والإنسان. يريك الجذور، في شاشة كالمسرح على شكل دائرة لا تعرف بدايتها من نهايتها. ورواية قصة مدموجة، وفيلمٍ عظيم صوّر بكاميرات سعودية، وفيدوهاته العالمية أخرجتها أيادي مبدعين من الشباب السعودي، أجادوا الاختيار والانتقاء، قضوا شهرين ونصف الشهر وهم يصورون الجزر، والبحار، والصحارى، والفيافي، والوديان، ويلتقطون ابتسامات البشر، فأتوا إلى الشاشة المذهلة، وأمروها بنقل الصور، والمشاعر، بلغة شعرية. فقف هناك طويًا وانظر إلى ثبج الخلود هذا!
في القاعة: شاشتان، اجتمعت فيهما حياة الناس، وتعاقدت فيها جذور الأرض، أنت تحسب أنها تدور بك حينًا، وتتخيّل أنها كرة بلورية يبديها ساحر طيّب، فيريك ما تحب وتشتهي. وهي أعجب من ذلك كله!
شاشتا LED للعروض المتزامنة، بمساحة إجمالية تبلغ 320 مترًا مربعًا، تعرض نتاج 72 يومًا من التصوير والسفر، غطت أحد عشر ألف كيلو متر. بعد التعرف على المناظر الطبيعية والتراث المعماري المتنوع في البلاد، تقدم الشاشة عالية الدقة، 23 موقعًا وفعاليّة.
تتنوّع الفعاليات، فيها الصيد والزرع وأنواع الحصاد والمهرجانات السياحية، فبداية من مواسم الصيد في جزر فرسان، حيث المياه تشفّ عن شعابها المرجانية، فتجذب الغواصين. ومن ثم ترى موسم الحصاد الملوّنة في حقول الورود في الطائف، حيث يحصد أهلها 70 ألف وردة يوميًّا، في مشهدٍ لا يضاهيه بهاء، على لون الخزامى وأنواع الورود. بلوغًا إلى واحة الأحساء، أكبر واحة للنخيل في العالم، 3 ملايين نخلة وتزيد، بجودة تمور لا يعلو عليها، تمر… الخضرة والماء والوجه الحسن.
مزيج بين التاريخ والمعاصرة، والطبائع المتنوعة من الرمال والصحارى، إلى صخورٍ رسوبيّة متعرجة، بينها أودية كوادي طيب اسم، الذي استغرق تشكيله ملايين السنين، ليستقرّ نافذة بين الجبال والبحر.
ثم يتهيّأ وادي العلا، ليكون شاهدًا على أطلال مدينة «دادان» القديمة، ومعرضًا للطبيعة والتاريخ على حد سواء. أطلالاً من وراء أطلال! ولله درّ، لبيد بن ربيعة، الذي عرّفنا بأقلام هذه الأطلال، في معلقته:
وجَلا السُّيول عن الطّلُولِ كأنّها زبرٌ تجِدُّ متونَها أقْلامُها
واليوم، فإنّ ما جلا كلام الأطلال، ليس السيول، بل الإرادة القويّة، والرؤية الحكيمة والقيادة الرشيدة.
وهناك، في ما يعرض لحكاية الناس والأرض، مواقع شتى برسائل يضيق بها مقال واحد، فتبدو أحجار الخريمات، حيث المدافن التي يعود تاريخها إلى القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي. ومثلها المقابر النبطية (الحجر) في العلا، التي تحتوي على آثار حضارات متنوعة، بقصورها وأمجادها الشاهدة. وهي مآثر حيّة لا بد أن يعرفها الناس، فلا غرو أن تستعيد حياتها ورونقها وسمعتها، اليوم بالفعاليات والمهرجانات الجربئة.
فهذا المقام -ومثله آثار أخرى- بقي مهجورًا، ومنكورًا، وهجرانه يخصم من رصيدنا التاريخي، لذا فإنني أفرح كلما تجمّل اليوم بفعاليات كثيرة، كالذي تبرزه الشاشة: حيث مهرجان طنطورة للمناطيد، فيرى الناس كلّ هذه المناظر من علوٍّ شاهق، ولهذا مزيّة لطفية. فمن ينظر إلى التاريخ من هذا العلو، يشعر قلبه بالمغامرة، فإنه لن يتوانى عن اختراق المستقبل بعد ذلك، والمضي إليه بهمة الملوك. وفي العلا نفسها، في الشتاء تتسع الصدور، حين تتشنّف الآذان على أنغام العيش البهيج، وتسترخي بعد المغامرات المثيرة. وغير بعيدٍ من المكان تتجلّى على الشاشة، فيديوهات لقاعة المرايا الشهيرة، بجدرانها العاكسة للطبيعة من حولها كالسراب، فتبدو من بعيدٍ عائمةً سرابيةً، وتتضح لك حقيقتها كلما دنوت منها، لتكتشف أنها مسرحٌ خلّابٌ وباعث للحياة.
والصحراء غنيّة كما الخليج، فالربع الخالي، وإن كان خلوًا من الناس فيما زعموا، فهو غنيٌّ غنيّ، بالحقول التي تغذّي، لا البلاد فحسب، بل العالم بالنفط. وعليها تظهر صورة سفينة الصحراء، تشق عباب السراب.
ماذا بقيّ من المشاهد المثيرة، ولم يكن حاضرًا؟ فوهة بركان الوعبة، ظهرت بقطرها الكبير وعمقها. وإن كانت عند الجيولوجيين فوهة فحسب، فإنّها في المخزون الشعبي قصة عشق أسطوريّة، تغنّى بها العرب في معلقاتهم، وألحقها بعضهم بالطميّة المقصودة في رواية الأصمعي لمعلقة امرئ القيس، في فصل السّيل:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة من السَّيلِ وَالأغْثاء فلكة ُ مِغزَلِ
وهي أسطورة عربية لجبلين تاحبا، وتزوجا وأنجبا معًا، وظلّت تروى في حكاياتٍ لطيفة! اجتهد كثيرون لنفيها، وليتهم أسرجوا لأنفسهم خيل الخيال واستمتعوا بقصة الحب الحجرية هذه، فالأساطير لا تُحاكَم، فهي ترمز لأشياء، أهمها كيف يتقبّل الناس لأماكنهم وجغرافيا بلادهم، قبل آلاف الأعوام! فلعلهم حين أعياهم قديمًا فهم فوهة البركان، جعلوا تفسيرها في قصة حب.
من الجبال، تعود الشاشة لتنحاز للاخضرار، وكيف لا والبرداني المخضر طوال العام بطيوره ومواشيه ومياهه المستدامة، أو مدرجات ومصاطب جبل فيفا، التي تبدو كالحدائق المعلقة، كما تظهر ثمار قرية ذي عين القديمة، في تهامة، وكأنّ المُراد أن تدرك أنّ هذه البلاد غنيّة بالاخضرار في كل وجهاتها!
لا تغرق الشاشة في مشهدٍ ثابت، فهي تنقلك إلى واجهة جدة البحرية، التي يبلغ طولها 4.5 كم، ولها طاقة تستوعب 120 ألف زائر، وتدعوهم بعدها أن يزوروا جدة- البلد، أو جدة التاريخية، بحاراتها التاريخية ومساجدها الأثرية.
الدرعية، حاضرة بقوّة، ففي مناظرها التاريخية تبدو موئلاً للدولة السعودية الأولى، وبداية تاريخها، بحي الطِرَيف التاريخي، وفي المساهمة الآنية في بناء مستقبل البشرية، تظهر فعالياتها الخضراء صديقة البيئة، كما تبدو في رمزيّة سباق الفورميلا E، الذي يعكس العهد الجديد لتبني سياسات بيئية ترمي للحد من الانبعاثات الكربونية، إذ ترعى السعودية سباق فورميلا E، للسيارات الكهربائية سنويًا، ليمتد المضمار بين أزقة الدرعية وتاريخها. وتبارك الشاشة، صورة المسجد الحرام، التي ما أن تظهر حتى يتهامس الناس، بالدعاء الطيب والأمنيات، وإليه تهوي الأفئدة. تعرض هذه الصورة، على الجانبين، وفي الأرض، بطريقةٍ فنيّة مذهلة، لا تشعر بتداخلها، بل تزداد فكرتها وضوحاً، فهي الأرض والناس.
حسبك من التنوّع، أن ترى بحرًا تعانقه الصحاري، وخزاماً يلوّن الرمال، ووردًا يطغى بعطره ويغطي بلونه الأرض، وكلّ هذا طيّب. ولكنّ الأطيب هو جهد استبقاء طبعة الطبيعة والحفاظ على تنوّعها البيولوجي، في مساحاتٍ شاسعة، تحتضن العجائب الطبيعية، تتم زراعتها وإدارتها بعناية فائقة ومشاريع جديدة مستدامة.
فالبلاد هي ملتقى الطرق المؤدية إلى ثلاث قارات، فيها من تنوّع الحياة، والعادات، ما يمثل نسيج القارات الثلاث. ولا تستغرِب أن تجد أسرةَ: الآسيوي الشرقيّ البعيد، والغربي الأوربي الأبعد والأفريقي، تتناقش بحماسٍ عن تشابه الأقمشة، والرقصات، أو ذكريات مشتركة. فالسعوديّة بلد حيّ يَؤُمُّه المسلمون للحج، وكانت فيه حضارات عُرِفت بالعطر والبخور ونقوشاتٍ بهيّة على الأقمشة، كما يظهر أثره في الشعراء قبل الإسلام.
ثم أين؟
عرفنا الناس، وعرفنا المكان، فإلى أين يأخذنا الجناح من بعد، إنه يقودنا إلى قاعة الرؤية، ولكنّ لنعيشها نحتاج إلى سلم، يرسم لنا الهويّة، وبصمة المستقبل، ففي السقف تتدلى بلورات ترمز إلى شعار الرؤية، وعلى الجانبين شاشة بمساحة 370 مترًا مربعًا. تقدّم لمحة أولى لمستقبل المملكة العربية السعودية المثير والواعد. وتعرض بعض المشاريع الخلّابة على رأسها: مدينة نيوم، المدينة الحلم، تقدّم لك المستقبل لتراه اليوم، وتشعر بالطموح العملاق، الذي يليق ببلدٍ عملاق، يعرف سلّم التاريخ والهويّة، ويجيد الصعود على الدرج. وقريبًا منها مشروع البحر الأحمر، حيث يقدّم فرصًا واعدة في مجالات السياحة والاستثمار، ويمثّل وجهة طبيعية فاخرة وطبيعة خلابة وشُعبًا مرجانية ساحرة، ومجموعة من التجارب الحصرية للسياح من مختلف أنحاء العالم.
ويظهر في هذه اللمحات، مشروع القدية، وجهة الترفيه والرياضة والفنون، بألوان منتزهاتها، وتصاميم أكاديمياتها، وأنشطة مبهرة. ومثلها تبرز بوابة الدرعية، أكبر مشروع تراثي وثقافي العالم، في لمحاتٍ بليغة، لا توفيها مجلدات الكلام، ولا يشرحها سوى أن تشعر بجوّها.
أما قلب الرياض، فتشكّل في صورته المستقبلية، حديقة الملك سلمان: السويداء، والمتنفي، بموقعها المحوري، ولها الصدر في العالمين لأنها ستكون أكبر حدائق المدن في العالم، بمساحة تزيد عن 16 كيلو متراً! تحتوي على المجمع الملكي للفنون والمسرح الوطني وغيرها.
العبقرية في الرؤية: هي فوق ما تحلم به
ثم تصل إلى ثمرة الأماكن العبقرية: قاعة الرؤية داخل الجناح، مزيج لفنون تطلق للخيال العنان، في أوّل خطوةٍ لك فيه، ستلحظ تفاعل الأرض بالألوان، يقفز الأطفال فرحًا، بينما يطويها الكبار بهدوء وعيونهم في خطى الآخرين. لن تطيل النظر إلى الأرض، فالشاشة العملاقة، ستجذب انتباهك بسرعة: كرة عملاقة تدور وتدور، حدودها لا تراها، رسائلها ذكيّة، تحتاج إلى دقائق لتقرأها، تبرز الزهور، والنخيل، بشكلٍ جديد، ورسم فريد، ثم ألواح الطاقة الشمسية، والمدن الطائرة، والسماء. وكلّ هذه اللوحة، تتلخص في محاور منتقاة، ودقيقة: صُمم العرض بتعاون مشترك مع خمسة فنانين سعوديين بارزين، هم: دانة عورتاني، ولولوة الحمود، ومعاذ العوفي، وطرفة فهد، وطلال الزيد.
تقرأ في محور «الكون»، الشمول والاتساع والتمدد ولا يغيب معنى التغيّر، وتغرق بتواضع في التفاصيل الثرية، وتختطفك إشارات العناصر الفلكية، وفي محور «الطبيعة»، ترتبط العناصر المتنوّعة بمشاريع الاستدامة، والطاقة النظيفة، والأمل لا يغيب. أما في محور «الثقافة»، فإن الحرف ملك الحضور، فإن كنت من عشاق الخط العربي، فاهنأ بطول فرح وسعادة، فقد أنتج الفنانون به معطىً بصريًّا عجيبًا، يوحي بأنّ الأصالة والمعاصرة لهذه الرؤية جناحان. وفي محور المستقبل الواعد، تظهر مدينة الرياض المستقبلية، تزيّنها الحياة.
في هذه القاعة تتجسد رؤية السعودية للمستقبل في عرضٍ سمعي وبصري، ويظهر الطموح المذهل في شاشة شبه كروية، وأربع مرايا كبيرة. ولك أنت أن تخرج برسائل أكثر وأكبر مما أراده الفنانون. فقصيدتهم التي صاغوها صارت ملكاً لمن رآها، ولك أن تحلم بليلاك، فالقاعة تضع على ملامح الرؤية ولك أن تضع حلمك، وأراهنك أن الواقع سيبزّه.
وإذا خرجت من قاعة الرؤية، فحاذر أن تذهب مباشرة إلى الخارج. فما زالت في الرحلة بقيّة، في الجزء الثالث، حيث حديقة النخيل، مهبط الراحة النفسية، مساحة بيضاء بتصميم بسيط، تزينه الشمس إن كنت في النهار، وتتدلى على سقفه نباتات بهيّة، فتجعل الهواء عليلاً.
تم تصميم حديقة النخيل لتكون منطقة يستريح بها الزوار، ومكانًا لعرض أشجار النخيل ونباتات الزينة التي تنمو في السعودية. ومن هنا، يمكن للزوار أيضًا زيارة المقهى أو التجول في متجر الهدايا التذكارية. وفي متجر الهدايا، من كل مدينة في السعودية تذكار معبّر. وفيه تجد أكثر من 13 نوعًا من البن، يتنوع بمناطق السعودية كلها!
تضم الحديقة، ستارة مائية متحركة، تتميز بعناصر تفاعلية إضافية يمكن للزوار التفاعل معها من خلال اختيار الأشكال والزخارف السعودية المختلفة لعرضها على المياه. وتستعرض الستارة المائية أشكالاً تمثل المناطق الـ13، وشعار البلاد الوطني، فإذا ضغطت على اسم حائل، ظهرت لك النقوش الصخرية في جبال جبة والشويمس، كما يظهر تعريف صغير بها، وإذا لمست اسم الجوف، ظهر شجر الزيتون الذي يعد أحد أهم المنتجات الزراعية في منطقة الجوف، وعلى الشاشة برز تعريف بها. وكذا الحال إذ أردت رؤية أحد الأنماط المعمارية والنقوش المشهورة في المنسوجات المشهورة في المنطقة الشمالية. أو بيوت الأحساء بطرازها المعماري الفريد والمميز. هذه الستارة حازت على رقم قياسي من غينيس.
وفي الليل على الجهة المقابلة للستارة المائية، مسرح صغير، تقام فيه الفعاليات التي تعكس تنوّع الفنون والآداب. وحين حضرت أمسيةً شعرية في هذه الجهة، امتلأت روحي بالسعادة والفخر، فقد اكتمل بالشعر المعنى. فهذه العروض تتكامل بوجود الفنانين والمثقفين الذين يروجون لجودة الحياة، ومستوى الترفيه الثقافي. المحطة الأخيرة هي مركز الاستكشاف
يسمح الجزء الأخير من المعرض بالتجول بحرية واستكشاف ما تريد عن السعودية. فلابد لمن مرّ بكل هذه المحطات أن يدوّن أسئلته، وهنا في مركز الاستكشاف، يتأهب الجميع للإجابة على الأسئلة. فهو يضع البلاد كالكتاب المفتوح. عبر طاولة تفاعلية تماثل الخريطة، ليس عليك سوى أن تضغط على ما تريد، محاطة بست شاشات عمودية تمثل كل منها فئة منفصلة. تعرض أكثر من 1.000 نقطة بيانات لاستكشافها.
وإذا أردت الاستزادة ففي كل زاوية جهة متخصصة، تجيب عن الاستفسارات بكل ود، في الفن والثقافة، أو الاقتصاد والاستثمار، أو الطاقة، وحتى الطبيعة والسياحة، ومواضيع المجتمع والوطن. وزاوية للتحوّل. خاتمة
هذا الجناح، يصافحك بود ومحبة، وحين تخرج، تبقى معك قناعة، أن هذا الجناح شاده شعبٌ تكوّنت بروحه طبقات التاريخ، عمّرتها آلاف السنين، لونتها ملايين الأفكار، جمّعتها مئات الشعوب والقبائل، تنوّعت طبائعها وزين خصاله. تخرج وفي بالك الشيوخ الكرام، والشباب الحكماء، النساء الذكيات، والشابات العاملات.
الجناح شبابيَ بامتياز، يضع الطموح في القلب قبل الرأس، ففي كلّ معروض من الأشياء الجميلة حكايات ظاهرة وباطنة، وفي كلّ عارضٍ ما لا يقل من ذلك. فالناس هنا هم كلّ الناس، فيهم مني ومنك ومن الملايين، يحضنون الزائر ويقولون له: لقد وصلت السعودية الجديدة إليك، فمتى ستصل إليها!
السفير السعودي لدى الإمارات