مَا مَرَّ بِهِ شَاعِرُ اَلْعَرَبِ اَلْكَبِيرِ، أَبو الطَّيِّب المُتنبِّي، مِنْ بُؤْسٍ وَعَنَاءٍ وَمَشَقَّةٍ، تَصِلَ حَدَّ اَلضَّنْكِ، فِي كُلِّ مَرَاحِلِ حَيَاتِهِ، مُنْذُ طُفُولَتِهِ وَحَتَّى مقْتَلِهِ، يُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ أَرْضِيَّةً خِصْبَةً لِمَا كسَا أَبْيَاتَ شَاعِرِنَا اَلْمُبَجَّلِ، بِالتَّشَاؤُمِ، وَالسَّوْدَاوِيَّةِ. وَيَجْزِمَ اَلْبَعْضُ بِأَنَّ المُتنبِّي عَانَى مِنْ اَلِاكْتِئَابِ، اَلَّذِي كَانَ يُعَاقِرُ شَاعِرَ اَلدُّنْيَا مِنْ حِينٍ لِآخَر، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ كُلّ أَوْقَاتِهِ.
إِنَّ اَلْعَثَرَات اَلَّتِي مَا فَتِئَتْ تَتَرَصَّدُ طَرِيقَ أَبِي اَلطَّيِّبِ، قَادتُهُ دُونَ شَكٍّ، إِلَى اَلتَّعْبِيرِ عَنْ سخْطِهِ اَلْكَبِيرِ على الدُنيَا، وغُصَتِهِ وحَنَقِهِ من النَّاسِ، خِلَافًا لِاعْتِرَاضِ المُتنبِّي اَلْمَرِير، عَلَى سِيَادَةِ جِنْسِ مِنْ اَلْبَشَرِ، يَرَاهُمْ شَاعِرُنَا، أَقَلَّ شَأْنًا، وَأوضَعَ مَكَانَةً مِنْ كَثِيرٍ، لَمْ تُتَحْ لَهُمْ المناصِب، رُغم مُؤَهِّلَاتِهِمْ اَلْإِبْدَاعِيَّةِ وأَلمَعِيّتهم، وَلَا مَنْحَهُمْ ذَكَاؤُهُمْ، وَتَمَيُّزُهمْ، مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ دَرَجَاتٍ، بَدَلاً مِمَّنْ تَوَاطَأ اَلزَّمَنُ مَعَهُمْ، فَظَلَمَ القَوِيَ الأَمِين، وَحَرَمَ اَلْمُسْتَحِقّ، وَأَفَاضَ الهِبات، وأَوفَرَ الأُعطِيات، وأجزلَ المِنَح للأَقَلّ كَفَاءَةً، بِرَأْيِ أَبِي اَلطَّيِّبِ، اَلَّذِي أَقْذَعَ فِي هجاءِ اَلزَّمَانِ، مراراً، كقوله:
قُبْحًا لِوَجْهِكَ يَا زَمَانُ فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَهُ مِنْ كُلِّ قُبْحٍ بُرْقعُ
جَسَّدَتْ هَذِهِ اَلْمَرْحَلَةُ آلَاماً وَجِرَاحاً، انعَكَسَت وَهْنَاً وَقَلَقًا، بَدَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، مَا جَعَلَ بَعْض اَلْأَبْيَاتِ تغْرقُ فِي اَلتَّشَاؤُمِ، وَلَا أَجِدُ غَضَاضَةً، فِي اَلتَّأْكِيدِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ، لَمْ يُجَرِّدْهَا بِحَالٍ مِنْ سُطُوع فُيُوض اَلْحِكْمَةِ، مُتَلَأْلِئَةً بِأطَايِبِ اَلْمَعْارِفِ، مُتَعَمِّقَةً فِي أَغوارِ اَلنُّفُوسِ، وَطَبَائِع السُلُوكِ. لَقَدْ تَسَاوَتْ عِنْدَ أَبِي اَلطَّيِّبِ، فِي أَوقَاتٍ، كُل اَلْأَشْيَاء، وتماثَلَت أمامَهُ الِاخْتِيَارَاتُ اَلْمُتَنَاقِضَةُ، كَأَنَّهَا جِنسٌ متطابقٌ؛ فَسُلُوكُ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، مُؤَدٍّ لِلنَّجَاةِ، عند المُكتئِبِ، لَا يَخْتَلِفُ عن سُلُوكِ طَرِيقِ تَهلُكَةٍ بَيِّن!
وَعِنْدَمَا تَتَسَاوَى خِيَارَاتُ اَلصَّوَابِ، وَالْخَطَأِ، وَالْأَذَى، وَالنَّجَاةِ، فَتَكُون فِي مَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، لا يُرَافِقُهَا إلا اَلْمَوْت؛ فَالْأَمْرُ مُؤَذِّنٌ بِخَطَرٍ دَاهِمٍ، مُوغِلٌ فِي وَحلٍ مِنَ الْكَآبَةِ. وَتَأْمَل بَيْتَ المُتنبِّي:
وَأَنَّى شِئْتِ يَا طُرُقِي فَكُوْنِي أَذَاةً أَوْ نَجَاةً أَوْ هَلَاكا
لَا يَتَوَقَّفُ شَاعِرُنَا اَلْكَبِير، عَنْ ذَمِّ اَلدُّنْيَا، مُؤَكِّداً أَنَّ فِي اَلنَّاسِ مِنْ اَلشَّرِّ، أَضْعَافَ ما فيهم من خَيْرٍ، فيقول:
وَلَمَّا صَارَ وُدُّ النّاسِ خِبّاً جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ
وَصِرْتُ أَشُكُّ فِيمَنْ أصْطَفيهِ لِعِلْمِي أنّهُ بَعْضُ الأنَامِ
يعود المتنبي، لا لينتقد الناسَ، بأقذع الألفاظ، فحسب، بل ليُصَغِّرَ، أهل الزمان، قاصداً تحقيرَهم بِتصغِيرِهِم، فَهُوَ مَفتونٌ بالتصغير في شِعرِه، فيقول:
أَذُمُّ إِلى هَذا الزَمانِ أُهَيْلَهُ فَأَعلَمُهُم فَدمٌ وَأَحزَمُهُم وَغدُ
وَأَكرَمُهُم كَلبٌ وَأَبصَرُهُم عَمٍ وَأَسْهَدُهُم فَهدٌ وَأَشجَعُهُم قِردُ
وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرَى عَدُوّاً لَهُ مَا مِن صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وَلَا عَجَب مَعَ ذَلِكَ، أَنْ يَشجُبَ المُتنبِّي، تَبَايُن مَوَازِينِ قِيَمِ اَلزَّمَانِ، بقوله:
إِنَّا لَفِي زَمَنٍ تَرْكُ اَلْقَبِيحِ بِهِ مِنْ أَكْثَرِ اَلنَّاسِ إِحْسَانٌ وَإِجْمَالُ
وكما يُتقِن دائماً… يُحَلِّقُ شاعرُنا الفحل، فِي سَمَاوَاتِ اَلْحِكْمَةِ، فَيَقُولُ:
ذِكْرُ اَلْفَتَى عُمْرهُ اَلثَّانِيَ وَحَاجَته مَا فَاتَهُ وَفُضُولُ اَلْعَيْشِ أَشْغَالُ!
إِنَّ هُمُومَ المُتنبِّي وَأَحْمَالُهُ تَزْدَادُ ثِقْلاً، فَيَغشاهُ سَأَمٌ، وَيُخَامِرَهُ تَشَاؤُمٌ، وَتَعْتَرِيهُ صُنُوفُ مِنْ اَلْكَآبَةِ اَلْكَالِحَةِ اَلسَّوَاد. يَقُولَ وَاصِفًا حَالَةَ اَلْبُؤْسِ اَلَّتِي هَطَلَتْ عَلَيْهِ كَالْحِجَارَةِ، فِي مَطْلَعِ قَصِيدَةٍ لَهُ:
بِمْ اَلتَّعَلُّلُ لَا أَهْلٌ وَلَا وَطَن وَلَا نَدِيمٌ وَلَا كَأْسٌ وَلَا سَكَنُ
وَلَئِنْ كَانَ مَعْنَى اَلْبَيْتِ اَلسَّابِقِ مُتَسَرْبِلا بِالسَّوَادِ، غَارِقا بِالظُّلْمَةِ، فَإِنَّ أَبَا اَلطَّيِّبِ يُفَاجِئُ اَلْجَمِيعُ، فِي اَلْبَيْتِ اَلثَّانِي، مُتَجَلِّياً فِي فَضَاءَاتِ عُلُوِّ اَلْهِمَّةِ، شَارِحاً بُغْيَتُهُ مِنْ اَلدُّنْيَا، بِقَوْلِهِ:
أُرِيدُ مِنْ زَمَنِيّ ذَا أَنْ يَبْلغَنِيَ مَا لَيْسَ يَبْلُغُهُ مِنْ نَفْسِهِ الزَّمَنُ
أبرز أعراض الإصابة بمرض الاكتئاب، وفقاً للأطباء النفسيين: فَقْدُ الاهتمام بما كان ممتعاً، وتَعَكر المزاج، وفقدان القُدرَةِ على الإحساس بالجماليات، أو تَذَوقِها، وتَحَوُّل ما كان المكتَئبُ يعشقه ويلتذُ به، إلى ممارسات لا تعني شيئا، فاقداً أحاسيس الاستمتاع، ومذاقات التذوق، فلا يلمس المصابُ فَرقاً ولا يقفُ على اختلافٍ، عندما تُعرض عليه الخيارات المتناقضة، وكأَنّ المتنبي عَبّر عما سبق، بقوله:
كَفَى بِكَ دَاءً أَن تَرَىَ المَوتَ شَافِيَا وَحَسْبُ المَنَايَا أَنْ يَكُنَّ أَمَانِيَا!
ألا يدعو الاكتئاب مُصَابَهُ إلى محاولة الانتحار؟! ذلك لأنَّ الموتَ والحياةَ، لم يَعُد ما يُفَرِّق بينهما، في مراتب متعددة من الكآبة! ثم أي داء يبلغ مرحلة طلبكَ الموت بُغيةَ الشفاء، وتحويلك المنايا التي يَفِر الناس منها، بل رفعُكَ دَرَجَتها لتكون أُمنِيَاتٍ يُسعَى لِنَوَالِها!
في بيتٍ غير بعيد عن توصيف أعراض الاكتئاب، يقول أبو الطيب:
وَمَا انْتِفَاعُ أَخِي الدُّنْيَا بِنَاظِرِهِ إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
الأستاذ عباس العَقّاد، عَقَدَ برشاقة قَلَمه، وعُمقِ فكره، مقارنةً لطيفةً، بين أبي الطيب، وتلميذه النجيب، أبي العلاء المعري؛ مُتسائلاً: أيجتمعانِ في تشاؤمهما؟! يجيب العقاد: «المتنبي متشائمٌ، والمعري متشائمٌ، ولكن الفرقَ بين المذهبين في التشاؤم، كالفرق بين شخصِ المتنبي، وشخص المعري، في المزاجِ والخليقةِ والمَطلَبِ. وهو دليلٌ على صدق الشخصية الشعرية عند كلا الشاعرين الكبيرين» ما يؤكدُ قناعته بإيمانِ أرسطو، بتوأمة الإبداع والاكتئاب. يواصل العقاد: «فالمعري متشائمٌ، لأنَّه حكيمٌ، يتدبرُ أحوال الخلقِ، ويَرثِي لما هم فيه من الجهالة والشقاء، لِغيرِ مَأرِبٍ يُريدهُ، إلا التأمل والحكمة».
ينقل لنا المعري صِراعاً نَفسياً عميقاً يمور داخله، فيقول:
مُهجَتِي ضِدٌّ يُحارِبُنِي أَنا مِنِّي كَيفَ أَحتَرِسُ؟!
يستشهد العقاد، ببيتين لأبي العلاء:
بَنِي الدَهر مَهلاً إِن ذَمَمتُ فِعالَكُم فَإِنِّي بِنَفسِي لا مَحالَةَ أَبدَأُ
مَتى يَتَقَضَّى الوَقتُ وَاللَهُ قادِرٌ فَنَسكُنُ في هَذا التُرابِ وَنَهدَأُ
أَمَّا المتنبي، فمعظم تَشاؤمه – بل تشاؤمه كله في جوهره – من قبيل قوله:
أَوَدُّ مِنَ الأَيّامِ مَا لَا تَوَدُّهُ وَأَشكُو إِلَيهَا بَينَنَا وَهِيَ جُندُهُ
أو من قبيل قوله:
ومَنْ عَرَفَ الأيّامَ مَعرِفَتِي بها وبالنّاسِ رَوّى رُمحَهُ غيرَ راحِمِ
كآبة أبي الطيب، عارضةٌ، تزورُهُ إذا ادلهمت عليه الهموم، وأحاط به غدر الزمان وأُهَيْلِهِ. يقول العقّاد عنه: «فهو يتشاءمُ لِعِلَةٍ عَارِضةٍ، وهي أنَّ زمانه وأهلَ زمانه لا يُنِيلُونه ما ينشده من الجاه، ومن هنا كان الذَّنبُ عِندَهُ ذَنب جِيله، ولا شأن له فيه».
وَلَا غَروَ، فَكيفَ يُتَاحُ لمن تُلازِمه الكآبةُ، ولا يغادِرُهُ التشاؤم، أن يقول شِعراً يَسمُو بمعانيه، كبير النفسِ، رفيع الهِمَّةِ؛ كقول المتنبي:
ذَرِينِي أَنَلْ مَا لا يُنَالُ مِنَ العُلَى فَصَعبُ العُلَى فِي الصَّعبِ وَالسَهلُ فِي السَهلِ