من غرائب من لم يُعاصر هذه الحادثة أن كل فرض من الصلوات الخمس، كانت تقام في الحرم المكي الشريف بمكة المكرمة، قبل أكثر من قرن من الزمان، بأربع جماعات مختلفة، تصلي كل منها مستقلة خلف إمامها، في الوقت ذاته! فقد كان هناك أربعة مقامات، يتبع كل منها للمذاهب السنية الأربعة، الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي. ولكل مذهب إمام في المذهب يصلي الفرض بمن يتبع مذهبه، فتقام الصلاة الواحدة، بأربع جماعات، في ذات الوقت.
ونقل بعض المعاصرين، أن التعصب المذهبي بلغَ مبلغاً، جعل من يتبع مذهباً، إذا صلى خلف إمام مذهب آخر، يعيد صلاته، لأنه يعتقد بعدم جواز الصلاة. أما مكان المقامات الأربعة، فالمقام الحنفي في الجانب الشمالي، يصلى فيه الإمام الحنفي. والمقام المالكي في الجانب الغربي، يصلي فيه الإمام المالكي. والمقام الشافعي في الجانب الجنوبي يصلي فيه الإمام الشافعي.
والمقام الحنبلي بالجانب الشرقي في مقام إبراهيم يصلي فيه الإمام الحنبلي. فتقام الصلاة في المسجد الحرام، أربع مرات أو يصلي فيه أربعة أئمة! وهو انعكاس لعصر من عصور الانحطاط في تاريخنا، حيث بلغ التعصب المذهبي، مبلغاً بشعاً، لا يعبّر عن دين واحد، ونبي واحد، وقبل ذلك رب واحد، يتبعه المتعصبون. ويتحدث الإمام الصنعاني (ت 1182هــ)، بغُصَّة عن هذه المرحلة المؤلمة من التعصب، فيقول: «من أَسْوَأ آثَار التَّقْلِيد على الْأمة، مَا وَقع من تَقْسِيم الْقَضَاء والإفتاء والتدريس، على عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَتَخْصِيص قَاضٍ لَك مَذْهَب من الْمذَاهب».
وينقل عن المقريزي (ت845 هــ) كيف الظَّاهِرَة تصويراً محزناً: إذ وقت سلطنة الْملك الظَّاهِر بيبرس (حكم بين 658-676 هــ)، ولي بِمصْر والقاهرة أَرْبَعَة قُضَاة، وهم شَافِعِيّ ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذَلِك من سنة 656 حَتَّى لم يبْقَ فِي مَجْمُوع أَمْصَار الْإِسْلَام مَذْهَب يُعرف من مَذَاهِب أهل الْإِسْلَام سوى هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، مشيراً إلى أن كل مذهب أصبح له أماكن التعلم والسكن والمنافع الخاصة بأتباعه دون غيره. ومنع من تولي القضاء والخطابة والإمامة والتدريس من لم يكن مقلداً لأحد المذاهب الأربعة، وأفتى فقهاء المذاهب بوجوب اتباع أحد هذه المذاهب وحرمة ما عداها. «وَلم ينْتَه الْأَمر بِوُجُوب تَقْلِيد الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، بل صَار كل مَذْهَب مِنْهَا كَدينٍ مُسْتَقل، ونصوا على بطلَان الصَّلَاة خلف مُخَالف الْمَذْهَب كَمَا مضى، وبالتالي كَانَ إنْشَاء المقامات للمذاهب الْأَرْبَعَة فِي الْحرم الْمَكِّيّ أمراً حتمياً، قَامَ بِهِ أشر مُلُوك الجراكسة فرج بن برقوق (ت 814هــ)، فِي أَوَائِل الْمِائَة التَّاسِعَة». يضيف الصنعاني: «وَكَانَ الْأَمر على ذَلِك حَتَّى جمعهم الْملك الإِمَام عبدالعزيز آل السُّعُود، خلف إِمَام وَاحِد، وَهدم ابْنه الْملك سعود بن عبد العزيز هَذِه المقامات الْأَرْبَعَة، عِنْد الْبناء الْجَدِيد لبيت الله الْحَرَام، فجزاهما الله خيراً».
إنّ هذا لأمر عجيب… ألّا تُقبل صلاتك خلف إمام مذهبه غير مذهبك، ولا شهادة مختلف المذهب في قضية لأصحاب مذهب آخر! ثم أربعة مقامات تصلي في الحرم المكي الشريف بأربع جماعات مختلفة في الوقت ذاته! والكارثة الكُبرى، أن كل هذه الممارسات العجائبية تلك، ينطلق ممارسوها من دافع الحمية الدنية، والانتصار لدين الله، والحرص الشديد على تطبيق ما يعتقدون أن رضا الله لا يتم إلا به!
لقد كان قرار مؤسس المملكة العربية السعودية، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، بإلغاء هذه المقامات، والأمر بأن تكون الصلاة واحدة، خلف إمام واحد، قراراً حكيماً وعاقلاً، بلا شك.
لكن تصور حالة تعصب المذاهب تلك، تجعلنا نجزم بأنه لم يكن قراراً سهلاً، ويمكن أن نتخيّل حجم غضب المتعصبين مذهبياً آنذاك، على هذا القرار، ولكنه واجب الحاكم الحازم الباحث عن المصلحة، ولو غضب بعض العامة. رحم الله الملك عبدالعزيز، وكأَنّ ابن خالويه اللغوي، يتحدث عنه، بقوله: إذا لَم يَكُن صَدرُ المجالسِ سيِّداً
فلا خيرَ فيمن صَدَرَتُهُ المجالِس
يبين قرار الملك عبدالعزيز أن الحاكم السياسي، هو الذي يقودُ المجتمع باتجاه الاعتدال، والوسطية، ولو ترك الأمر للمتربحين بالتشدد، لزادوا الحياة تعصباً، وتشدداً، بحثاً عن توسيع نفوذهم.
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
وَالبَيتُ لا يُبتَنى إِلّا لَهُ عَمَدٌ
وَلا عِمادَ إِذا لَم تُرسَ أَوتادُ
صدق أبو الأسود الدؤلي… وجمعنا الله وإياكم على خير.
* السفير السعودي لدى الإمارات.