أحياناً يخيّل للمتابع أن القضايا المحليّة انتهت، وأن النوازل والمسائل الفقهية انقرضت واندرست؛ ولم يبق إلا مسائل الرضع والإرضاع بين زميلة العمل، أو ربة العمل، بينما بإمكان أي عاقل لديه الحد الأدنى من الوعي أن يعرف أن مفسدة اختلاط الزميل بزميلته عن بعد أقل من مفسدة الرضع المباشر.
اطلعت قبل أيام على فتوى الشيخ عبد المحسن العبيكان، التي تتعلق بإرضاع الكبير، قال فيها: “إذا احتاج أهل بيت ما إلى رجل أجنبي يدخل عليهم بشكل متكرر وهو أيضا ليس له سوى أهل ذلك البيت ودخوله فيه صعوبة عليهم ويسبب لهم إحراجا وبالأخص إذا كان في ذلك البيت نساء أو زوجة فإن للزوجة حق إرضاعه”.
استشهد الشيخ بحديث سالم مولى حذيفة وأقوال أخرى ، استشهد بها بحديث لعائشة وبأقوال نسبها إلى ابن تيمية قال بأنها مذكورة في العديد من مؤلفاته. واختتم العبيكان فتواه بأن الإرضاع في تلك الحالة لا يختص بزمن معين وإنما هو للعامة في جميع الأزمان.
قلتُ: وما أجمل تعليق أحدهم حينما قال انشغلنا بإرضاع الكبير عن فتاوى ضياع المال الكثير! انشغلنا بالإرضاع فسرق المال وضاع.
أكثر ما فاجأني في الفتوى صدورها من الشيخ العبيكان الذي يحاول ترسيخ الرأي الفقهي الهادئ، وهو ممن يحذّر طلاب العلم من الخوض فيما لا يفيد العامة، ولا ينعكس إيجاباً على المجتمع، بل رأيتُ الكثير من المنتديات تناقلت هذه الفتوى على سبيل التندّر والضحك. وهم معذورون فربما فتح العالم مسألة مستحيلة التطبيق ربما لغرض طرح إجابة فقهية منفصلة عن الواقع.
يقول ابن القيم:”والواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب”. أما الشاطبي فيقول:” ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام ، بل ذلك ينقسم : فمنه ما هو مطلوب النشر ، وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص”.
قال أبو عبد الله غفر الله له: أعلم جيداً أن الشيخ يعرف هذه النقولات وغيرها الكثير، غير أن ضرب الفتاوى المثيرة للجدل يميناً وشمالاً أحسب أنه يهزّ من هيبة الفتوى والمفتي، يحوّل المفتين إلى مثار نكات تطلق يميناً وشمالاً.