من ذا الذي لا يحب لبنان، هذا البلد الذي انعجنت الثقافة العربية بآثاره وبما أنتجه من ثورات، في الطباعة والشعر والأدب، وفي الفلسفة والترجمة، وفي إنتاج وتكرير مظاهر الحياة. استطاع أن يضم مزيجاً من الثقافات والحضارات والمذاهب والأديان. ويمكنني أن أصفه بأنه البلد الذي يضم تعددية وليبرالية المجتمع، وطائفية وتعنت السلطة والدولة. ولبنان الثقافة في قنطرة بين هذين النهرين. يكرع من هذا تارة، ومن النهر الآخر تارات أخرى. ليبرالية المجتمع اللبناني الواضحة، لم تخف جرثومة الطائفية المندسّة في جسد لبنان الجميل. صارت الطائفية مثل القبيلة، انتماء بالدم لرعاية المصالح، ولإتمام مسيرة العيش.
لا يمكننا أن نبحث مشكلة لبنان من دون الرجوع إلى تشخيص اللبنانيين أنفسهم. وأظنّ أن من بين الذين شخّصوا مشكلة لبنان الواضحة المقلقة رئيس تحرير صحيفة الحياة اللندنية: “غسان شربل”. الصحفي الخبير بدهاليز صناعة القرار في لبنان.
ربما اختلف معه البعض في حدته حينما يتناول لبنان بلده الأصلي. اقرأه وهو يقول: ” الطقس سيئ في بريطانيا، لكن عليّ أن أعترف أن هذه البلاد تعاملني أفضل مما أعامل في بلدي. لا أحد يهددني ولا أحد يحتقرني. حريتي مصانة. وكرامتي يحرسها القانون. لا يعنفني الشرطي بلا سبب. ولا يجرؤ على تزوير إفادتي. لا أخاف على أطفالي من حرب أهلية. ولا أرغم على النزوح باستمرار بسبب الانتفاضات المتواصلة. كلما حزمت حقائبي أعود وأغير رأيي. أشعر أن وطني تحول مصيدة لأبنائه. وأخاف أن أغامر بما تبقى من العمر، وبالأولاد الذين اعتادوا قبول الآخر واحترامه. أفكر وأتمزق. نذهب إلى الغربة وتذهب بلداننا إلى الهاوية. نلوح بالعودة ولا نعود. أشعر أنني مريض. أشعر أن بلادي مريضة”.
قال أبو عبد الله غفر الله له: هذا العتب المؤلم في تناول كاتب مثل غسان شربل لوطنه يعكس الحب، لو كان يكره بلده لفرح لما حلّ به، لكن النقد العنيف ينبع من حب جارف. ينتقد غسان السلطة اللبنانية التي دمّرت لبنان، سحقته، جعلت ليبراليته الاجتماعية على المحكّ.. يستمرّ في العتب: “السلطة اللبنانية سمجة. مزعجة. ثقيلة الوطأة. مغرورة. يمكن القول إنها وقحة. تعوزها البراءة. وخفة الظل. والرحابة. والكياسة. وآداب التعامل. وأصول الضيافة. وتقدير الظروف الإقليمية. ومراعاة العوامل النفسية. ومستلزمات الصراع المفتوح مع العدو. وضرورة إبقاء الإصبع على الزناد. السلطة اللبنانية كريهة. قبيحة. ومنفرة. تنقصها اللياقة. واللباقة. والواقعية”.
أظنّ أن هذا التحريض هو ما ينقذ المجتمعات من السقوط في الهاوية، وهو ما أبدع غسان في صياغته في كتاباته المحبة والعاتبة على بلد كان يسمى “سويسرا الشرق”.
جميع الحقوق محفوظة 2019