أتصفح هذه الأيام كتاب الراحل الدكتور: غازي القصيبي، “حتى لا تكون فتنة”، تأملتُ السجال الذي ساد تلك المرحلة الغريبة والحساسة في تاريخ تشكل التيارات في السعودية. وجدتُ أن كل الأفكار التي كان بعض الدعاة يعارضون القصيبي فيها، وكل الأفكار التي كانت سبب شغبهم عليه، وجدتها موجودة في خطاب أولئك. من كان يحرّم الحوار ويعتبره “مؤامرة علمانية”، صار يؤمن به ويعتبره منهجاً إسلامياًَ. والذين كانوا يعارضون الإصلاح بالتدرج ويعتبرونه “حيلة” من حيل العلمانيين، صاروا يطرحون التدرج كحل من الحلول الأساسية لمشكلات الأمة.
كما تطرّق القصيبي إلى قضايا صارت ضمن الأدبيات العادية التي يطرحها الدعاة يومياً، مثل تغيّر الفتوى، أو تقنين الشريعة، والاجتهاد، والتأمين، ووسائل التسلية، وقضايا المباح وكونه الأصل في الشريعة. القصيبي في هذا الكتاب الذي تميز بكونه كتاباً “تاريخياً” على صغر حجمه، امتاز بالرجوع إلى الكتاب والسنة وكتب الحديث والفقه، وأقوال ابن تيمية وابن القيم، لم يكن يأت بشيء من عنده، بل كان سبّاقاً إلى التحديث وميّالاً إلى الرؤية الشرعية المتجددة، وكان يحاول أن يطوّع الفقه لمصلحة العصر، وهي الدعوات التي صار الدعاة يتسابقون إلى الدعوة إليها.
ليس غرضي من هذا التذكير ممارسة “التأنيب”، ولكن الهدف الأساسي إشاعة روح الأمل، ذلك أننا نتغيّر من دون أن نعرف أحياناً، نتغيّر نحو الأفضل والأقرب إلى روح العصر. ما كان محرّماً أصبح مباحاً. وما نال القصيبي من لوم وتفسيق واتهام بالعلمانية والمروق من الدين اكتشفنا أنها مسائل يسع فيها الخلاف والاجتهاد؛ بل رأينا الدعاة يعتبرونها أولويات بعد أن كانت محرّمات. هذا هو هدف إعادة تاريخ ذلك الكتاب أن نعلم أن التغيّر في المجتمعات مثل تغيّر الأفراد لا يدرك بوضوح. هناك موجات مرت على المجتمع ساهمت في تغييره وفي إعادة أولوياته.
قال أبو عبدالله غفر الله له: يحقّ لنا أن نأمل بالتغيير، ولا شيء يمكنه أن يزهق روح الأمل في أرواحنا، بدليل أن عقدين من الزمان ومن السجال الفكري صارت جزءاً من التاريخ، واعتذر الذين خاصموا القصيبي للقصيبي شخصياً قبل موته، أو لروحه بعد موته، ولسان حال ذلك السجال قول أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** فكأنها وكأنهم أحلام!