“الزهايمر” لغازي القصيبي، هذه الأقصوصة العذبة؛ يدخل من خلالها غازي إلى عالمين اثنين، عالم “المرض” وعالم “اللاوعي”. حينما يصاب الإنسان بثقب في ذاكرته، كيف يتنقّل بين مفازات ومساحات من النسيان، جمع بين التحليل الأدبي والخيال العلمي، والسخرية اللاذعة. كأنها مذكرات عفوية لرحلة غازي مع المرض والتعب والإرهاق، وهي رحلة قضاها بصبر وتجلّد. يقول: “عزيزتي، أفقتُ هذا الصباح وأنا أردد بيت المتنبي الجميل:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً ** وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا”.
ثم يضيف: “عندما يصاب الإنسان بمرضٍ لا يشفيه سوى الموت، فمن الطبيعي أن تدور خواطر الموت في ذهنه بين الحين والحين. هل تعرفين يا حبيبتي أن ذكرياتي الأولى مرتبطة بالموت. أعني الذكريات التي لا يعرفها أحد، الذكريات الخاصة جداً. ذكرياتي هذه ملكي وحدي”. ثم يدخل في روايته على ملكة النسيان، التي تصبح نعمة في كثير من الأحيان. يقول: “بدا لي أن نسيان الأشياء السيئة لن يكون أمراً سيئاً. الأشياء السيئة! أوّاه! هل يوجد أكثر من الأشياء السيئة… صديقي الزهايمر لا يفرّق بين شيء جيد وشيء سيىء. لا يفرّق بين ما فعله الأعداء وما فعله الأصدقاء. يمحو كل شيء. ولعله يمحو الأشياء الطيبة، قبل الأشياء الرديئة، وعندما يذهب كل شيء فأي معنى يبقى للسعادة؟ ما هي السعادة؟ أليست السعادة في التحليل النهائي، مجموع التجارب السعيدة؟ بلا ذاكرة لا توجد تجارب … لا يوجد سوى الفراغ … فراغ الموت”.
هذه الرواية الختامية في مسيرة غازي القصيبي شكّلت مدونة لحالة المرض والتعب والإرهاق، وكان يرسلها إلى عزيزته، أفكار في الوعي واللا وعي، في المرض والصحة، في السعادة والشقاء، في الذهاب والإياب، في تفاصيل الحياة. في تفاصيل الإنسان نفسه وكل منعطفات حياته. مع سخرية بالغة الدلالة، وروح خفيفة تكشف عن سخرية لم يتخلّ عنها غازي القصيبي وهو في أحلك الظروف.
إنها بالفعل رواية خفيفة ودسمة، قريبة وبعيدة، سهلة وصعبة. وليس سراً أن أصعب الأساليب هي تلك الأساليب السهلة الممتنعة، التي تمتعنا من دون أن تتحدانا ومن دون أن “تتفذلك” في السرد والإبداع. رواية “الزهايمر” لغازي ضمت فقرات للسخرية حتى من الألم، والسخرية حتى من الأوجاع.