لستُ مع استخدام المنطق الحيواني ولا الكلبي لتوصيف الإنسان وحالاته. درجت الألسنة على تكرار كلمات صارت قطعية غير قابلة للنقاش، بل وشكلت قناعات بعض الزعامات الاجتماعية والسياسية. من بين تلك العبارات قولهم: “جوّع كلبك يتبعك”، وهو مثل أول من استخدمه ملك طاغية من ملوك “حمْيَر” كان عنيفًا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما في أيديهم، وكانت امرأته سمعت أصوات السائلين، فقالت: “إني لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجَهد.. ونحن في العيش الرغد، إني لأخاف عليك أن يصيروا سباعًا وقد كانوا لنا أتباعًا” فردّ عليها: “جَوِّعْ كَلْبَكَ يَتْبَعْك”.
والواقع أن الأحداث وأبرزها أحداث تونس الأخيرة تجعلنا نجعل هذا المثل في ذمة التاريخ، ليكون “جوع كلبك يأكلك أو يعضّك”، الكثيرون اعتقدوا أن هذا المثل له مبرراته، يرددونه في المناسبات، وبعضهم يعمل به خفيةً بينه وبين نفسه. يخاف بعض الزعماء من غنى الشعوب أو اكتفائها، ويرى أن في تجويعها طريقة مثالية للظفر بولائها!
الجوع هو أخطر ما يهدد السكان في العالم العربي، سكان في المقابر، انتشار وسائل الكسب غير الشريف، انتشار البطالة وهي أخطر كابوس اجتماعي يهدد الدول، لكن الكثير من الحكومات في غيّها تعمه، تتضاءل الطبقة الوسطى ويبقى المجتمع العربي بين نارين، نار الطبقة فاحشة الثراء وطبقة الفقراء المعدمين، ولا يشعرون بالوطن إلا من خلال الأغاني الوطنية، وبطاقة الهوية، ورخصة قيادة السيارة، لكن أن يكون الوطن مكان رزقٍ لهم فهذا هو حلم الشباب العربي الذي يحتاج إلى تحقيق وتطبيق من قبل المسؤولين والحكومات.
إن عبارة “جوع كلبك يتبعك” عبارة ليست سوى “خرافة” لأن المواطن ليس كلباً بل هو إنسان كرمه الله، وقياس الإنسان على سلوك الكلب فيه إهانة بالغة للإنسانية كلها، فالإنسان إن أكرمته زاد كرمه معك، ولن يضر بعض الحكومات العربية أن تترك الحكم القديمة والمتهالكة التي عفا عليها الزمن. امنحوا الناس كفايتهم من الغذاء والصحة والمسكن والمال، لن يضركم شيئاً، وإن لم نتنبه لهذا فإن الشعوب يوماً ما ستكون حزينة أو غاضبة، وكلا الموقفين سيئ وله نتائجه الوخيمة والمدمرة كما حصل في تونس من قبل تجويع منظّم مورس من قبل المتنفذين فأثمر عن “هبّة” وغضبة شعبية لم تقف إلا على إحراق قصر الرئيس التونسي نفسه.
أيها السادة، أكرموا الإنسان يكرمكم، وجوعوه تهتز أوطانكم وتسؤ حياتكم وتنتشر الجرائم والتجارة بالممنوعات وكل السلوكيات الإجرامية، ولتدفنوا المقولة البالية “جوع كلبك يتبعك” وليتم استبدالها بـ”أكرم الإنسان يكرمك”، فقد كان أحد أصحاب أبي حنيفة يقول:” لا شيْء أحسن من الإنسان”، وكان المفكر الإيطالي بيك دو لاميراندول يقول:”قرأت في كتب العرب أن لا شيء أروع من الإنسان يمكن أن يُرى في الكون”، فهل تذكر الإيطالي ما قاله قدماء العرب، ونسي بعض زعمائهم؟!