من أجمل ألوان الكتابة في نظري، تلك الكتابات التي تمزج بين التجربة الشخصية وبين الأسلوب الجميل والرشيق، كلنا نمر بتجارب تستحق أن تكون مكتوبة، في مقال أو يوميات أو رواية أو كتاب، وكما يقال: “لدى كل إنسانٍ قصة تستحق أن تروى”. المبتعثون الذين ناهز عددهم المئة ألف، لدى كل واحدٍ منهم قصة، ما بين تجارب في العيش والسكن، مع اللغة، مع الثقافة التي يحملها البلد، مع العائلة التي يسكن معها ليتعلم اللغة، مع البائعين، مع المال، مع الأمن، في المطارات، مع التفاصيل اليومية، واحتفالات المجتمع والأعياد. لوأن كل مبتعثٍ كتب تجربته الغنية لأصبحنا أمام أعمالٍ جميلة ونوعية.
أنس بن داوود العسافي، الذي كان مبتعثاً في بريطانيا، لم يهمل يومياته، بل كتبها، وطبعها في كتابٍ حمل اسم: “أيام في توتنغهام-مشاهدات سعودي مبتعث”. ضمنها مشاهداته المختلفة، من المشاهدات الاجتماعية إلى الرياضية إلى التعليمية. وكلها تحمل أسلوباً لطيفاً ويصل لطف الأسلوب حد السخرية أحياناً، وبخاصةٍ حين تحدث عن “مايكل” ذلك الأستاذ الذي أدمن القهوة العربية و”التمر”. كما تضمن الكتاب إشارات ضرورية للمبتعثين، وطرح من خلال القصص والمشاهدات دروساً أساسية لكل مبتعث، ومن لم يستفد من دروس غيره لن ينأى بنفسه عن ارتكاب نفس تلك الأخطاء.
من بين التنبيهات الأساسية قوله: “الفوائد ستغيب حتماً عندما تجد أن زملاءك هم من أبناء جلدتك، فستكون اللغة العربية هي الحاضرة في الحوار والنقاش الجانبي، وأثناء الحصص أيضاً، على الرغم من العهود والمواثيق التي نأخذها على بعضنا في جعل اللغة الإنجليزية هي اللغة المستخدمة داخل أروقة المعهد، ولكن للأسف كانت هذه الوعود سرعان ما تنقض”.
إن الجميل في الابتعاث كما طرح العسافي أنه يشرح صورةً مختلفةً للآخرين، وقد حكى في الصفحات 48 و 49 عن الممارسات الرائعة من قبل الطلبة السعوديين لجذب ود الآخرين من الإنجليز أو غيرهم. كتابه أهداه إلى:”كل مبتعث ومبتعثة؛ كثيرون نحن، انتشرنا في أرجاء العالم، لنستفيد من تجارب وخبرات من سبقنا، فلنكن ممن يحمل هم الوطن ونهضته، ولنحمله على عواتقنا ونتذكره كلما فترعزمنا”.
قال أبو عبدالله غفر الله له: والمبتعث في كل حركاته وتصرفاته لا يرسم صورةً سيئة عن نفسه فقط؛ بل إنه يرسم صوراً سيئة عن المجتمع الذي ينتمي إليه، والبلد الذي جاء منه. ليت كل مبتعث كان مثل نموذج أنس، كان بحق مبتعثاً هادئاً مسالماً عكف لسنواتٍ ثلاث على دراسته، ثم عاد لنا بهذا الكتاب الجميل!