من بين أفكار علي الوردي اللامعة عن المجتمع العراقي اكتشافه لمشكلة “ازدواجية القيم”! ويعني بها أن تكون بوجهين من الأخلاق والسلوك والتعامل، وهذا المرض أراه ليس حصراً على جنسية، بل يشترك فيه أي مجتمع مغلق، يضطرك لإبداء وجهين متباينين في وقتين متقاربين! من نافلة القول أن نقول بانتشار هذا المرض بيننا، وما منا من أحد لا يمارسه في قليل أو كثير.
تأمل حال من يدخل إلى مقهى الشيشة “ملثّماً”، وفي رواية “متلطماً”، أو حال من يذهب إلى زوجته المسيار ليلاً وقد أبعد السيارة ومشى بضعة كيلو مترات على قدميه، لا تريضاً، بل خوفاً من أن يراه أحد! أو حال من يقول لأهله إنه في مكة يتضلّع من ماء زمزم وهو في مكانٍ آخر يتنادى مع أصحابه في مقاه مختلفة وحانات متباينة!
ليست المشكلة أن تكون للإنسان خصوصياته أو أخطاؤه، لكن المشكلة أن يذم الفعل في الصباح ويعاقره في المساء، لا بل ويبرر فعل المساء بمنطق، ويبرر نقد الصباح بمنطق، تلكم هي ازدواجية القيم!
المجتمعات التي تعيش بوجهين، والتي تمارس أسوأ الأفعال سراً وتقول أتقى الأقوال علناً؛ هي مجتمعات تعاني من أزمة حقيقية في فهم العصر. القيم نوعان، بعضها ثابت والآخر متحول، بعض المتحول منها كان مذموماً بالأمس، لكنه صار ضرورةً اليوم، فالقيم بعضها يتغير، وليس من الضروري أن يكون هناك حالة “تكاذب اجتماعي” حتى يشعر الكل بأننا أتقى الأمم.
يمكن للذي يود أن يسافر إلى ماوراء البحار أن يعلن عن سفره وأهدافه منه لذويه وعائلته، على الأقل ليس ضرورياً أن يكذب حتى يبقي قيمة السفر على أنها محدودة بـ”مكة” أو إحدى المدن الداخلية، ليشعر حينها بالارتياح والمسؤولية ويبتعد تلقائياً عن الأخطاء والهفوات.
قيمة الإنسان في صدقه، والصدق لا يعني أن تقول كل خصوصياتك، ولكن ألا تبدو مدعياً لخلقٍ هو ليس فيك، مثل أن يهاجم الربا وأرصدته تنمو به، أو أن يشجب الفساد وهو من جلاوزته، أو أن يدعو إلى حقوق العمال وقد تعامل بشكل سيئ مع خدمه وسائقيه!
لنكن صادقين أكثر، حينها نشعر بالقيم وقد صارت أكثر تكيفاً مع كلامنا، وألا نلبس ثياباً كلامية فضفاضة، فالإنسان خليط من هذا وذاك!
قال أبو عبدالله غفر الله له: ومن كمال الإنسان اعترافه بنقصه وتقصيره، وازدواجية القيم التي عنى بها المرحوم الوردي العراق؛ تنطبق على معظم المجتمعات، التي تعيش أزمة انتقال من البداوة إلى الحضارة، ومن الهامش إلى العصر، والبديل عن ازدواجية القيم، التماهي مع حقائقنا الذاتية والفخر بما نؤمن به ونريده ونعتقده، مهما كان مذموماً عند البعض، فما دام قانونياً ونظامياً حينها نخرج من مأزق الازدواجية المقيتة!