حين تجلس مع بعض الغربيين تجد أن النقاش حول القوانين والأنظمة والضمان الصحي والأحزاب والنقابات وسواها.. لدينا نحن عكس هذه الحالة. تستمع إلى صوت الجالسين وأنت على بعد كيلو، وما إن تقترب حتى تكتشف أن الخلاف على موضوع مثل مصافحة مثقف لمثقفة في لوبي فندق! أو مطالبة أحد الدعاة بفحص العائدين من الابتعاث حتى يتأكد أنهم لم يشربوا الخمرة، ولم يتناولوا المخدرات! أو نقاش حول خلاف فقهي يبدأ من المسح على الخفين ولا ينتهي إلا بحكم حد الردة! كل هذه القضايا التي لا تمس بشكل محوري حياة الناس وأوجاعهم فيها إضاعة للجهد والوقت، وهو انشغال بالهامش عن المتن!
تعرف المجتمعات من الأحاديث التي تدور في المجالس، كل قصة وحدث وخبر يعبر عن المجتمع من عمقه. القضايا التي تثار الآن تجاوزتها الأمم الأخرى، بل حتى بعض الدول العربية تجاوزتها، والغريب أن أعراض الناس وأسماءهم صارت محور أحاديث كثير من المجالس، وهذا يعيدنا إلى حالة نفسية تستحق الدراسة، وهي أن البعض يشعر بتفوقه من خلال ضرب الآخرين بأعراضهم أو أسمائهم. مع أنه يمكن أن يصل إلى هدفه من دون أن يضرب هذا بتهمة، وذاك بسباب!
هذه الظاهرة المنتشرة في المجتمع هي التي تحول الآخرين إلى قضايا داخل المجلس أو الديوانية أو المناسبة أو حتى “المشب” بما أننا في فصل الشتاء. من بين الأحكام الأخلاقية العظيمة في الإسلام تحريم الغيبة، والتشبيه الذي وصفت به غاية في البلاغية حين شبه الإسلام من يغتاب أخاه بأنه يأكل لحمه ميتا، وفي القرآن عن اتهام الآخرين قوله: “إذ تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم”، لدينا تعاليم على مستوى كبير من التطور والتقدم بهذا الخصوص. لنقل أن فلانا صافح امرأة في الفندق، المصافحة مسألة خلافية، وعلماء كثر يجيزونها، ولنفترض أنها محرمة، فهي من الصغائر لا الكبائر، بينما يرتكب بعضهم الكبيرة بالغيبة والتشهير والقذف من أجل القضاء على صغيرة!
قال أبو عبدالله غفر الله له: إن انتشار التشقيق الفقهي على النحو الموجود هو الذي أعادنا للوراء، متذكرين المقولة التاريخية: “تقتلون الحسين وتسألون عن دم البعوض”. ومع كل التشقيق الفقهي والانشغال بالقضايا الصغيرة، لا يزال البعض “يقتل الحسين ويسأل عن دم البعوض”، وهذه هي المشكلة التي لا بد أن نواجهها!.