أترك للأصدقاء القدامى، عادةً، موعداً ثابتاً لأخذي بعيداً عن ضغوط العمل، حينما أنزل ببلدانهم، مع أن أحاديثنا يستحيل أن تخلو من العمل.
منهم من يواعدني في مقهاه الدائم، فأجدني خفيفاً ذاهباً لحنين بلا عنوان سوى مسافة الطريق، ومنهم الكريم المتعب، ذاك الذي زرته قبل أعوام فأخذني إلى بيت أمه، وحين استطبت الطعام ولم أستطع التوقف، أصبح ذلك الطبق المخصوص – من يد ما نعدمها – عادته التي لا أتردد في قبولها، بل وأجدني مرغماً على إبلاغه قبل الآخرين كي أضمن موعدي القديم المتجدد.
ومنهم ذاك الذي لا أنساه، ذلك الذي قال لي: أغمض عينيك وضع إصبعك على أي مكان في قائمة مطعمي المفضل، وأراهنك إن لم يعجبك شيء! مراراً وتكراراً، كان واثقاً جداً من نفسه. اكتفيت بطبقين ووجدتني غارقاً في اللذة، حين وصلت إلى قائمة الحلويات، كانت ثلاثة خيارات فقط، أغمضت عيني وتمنيت لو أنني أفتحها، ويسمح لي بتذوق الأنواع الثلاثة، حين انتهينا من التجربة العجيبة، قال: لا تشكرني، يمكنك فعل ذلك في أي صديق، شريطة أن يكون اختيارك من قائمة المطاعم «التي تستحق رحلة خاصة»!
أعترف اليوم لصديقي الأخير، أن تلك العبارة كلّفتني الكثير لاحقاً، أولها أني قضيت يومي كله أبحث عن جملته، حتى وجدتها بجوار المطاعم التي تنال ثلاث نجمات على مقياس دليل ميشلان، ومن يومها وأنا مثل سائقي الشاحنات الذين اعتمد عليهم الأخوان إدوارد وأندريه لجمع البيانات في بداية إصدار الدليل، كاتبين في إصداره الأول: «لا يمكننا القيام بشيء دون مساعدة السائقين، وبوسعنا القيام بكل شيء معهم». إنهما الأخوان ميشلان، أشهر صانعي إطارات في العالم.
لم يكن في فرنسا حينها سوى ثلاثة آلاف سيارة، وكان الأخوان يفكران في طريقة لجعل الطرق أكثر إغراء للسائقين، فاعتمدا على سائقي الشاحنات مصدراً موثوقاً لتقييم المطاعم في الطرقات والمدن المجاورة. كان الدليل الذي يجعل الطرق أكثر إغراء للسائقين مجاناً، حتى وجد أحد الأخوين الدليل موضوعاً يردف قدماً رابعة لطاولة مكسورة القدم!
أقسم ألا يكون الدليل مجاناً بعد اليوم، بل وضع قاعدة أساسية في عالم التسويق: الناس لا تحترم المجان، إن استطعت أن تبيع بضاعتك بالخسارة فافعل، وإياك إياك أن تعرضها مجاناً للآخرين!
من دليل يستمد قوته من سائقي الشاحنات إلى أهم دليل سياحي يتباهى به وعلى أساس نجماته أمهرُ الطهاة في العالم، وصولاً إلى كونه مصدر فخر واعتزاز وسبباً كافياً للانهيار بكاءً في حال فقد نجمة واحدة، كما حدث مع غوردن رامزي، الذي تحظى مطاعمه بست عشرة نجمة، مكفكفاً دمعه وهو يقول عن ألم خسارة تلك النجمة في قلبه: «إنها خسارة مؤلمة، خسارة تشبه خسارتك لشخص تحبه»!
وقد يقول البعض إنني أبالغ في الأمر، غير أن أحد أسباب انتحار أشهر طاهٍ في العالم قبل أعوام قد يكون – حسب المحللين – لخسارته إحدى نجوم ميشلان، فهذا الضغط الهائل الذي تتركه هذه النجمات على الطهاة، يفوق الضغط الذي يمر به المشاهير ليلة الأوسكار!
ومما يرجح فرضية انتحار الشيف بونوا فيوليه، 44 عاماً، تحت ضغط خسارة نجمات ميشلان، أن طاهياً فرنسياً شهيراً آخر قد أطلق الرصاص على رأسه مباشرةً بعد أن تراجع تقييم مطعمه نقطتين في العام ذاته.
وإذا كان دليل ميشلان متهَماً بالانحياز إلى المطاعم الفرنسية، ويتزعم نظرية المؤامرة هذه الأميركيون، ففي عام 2014 حصل مطعم واحد في شيكاغو على ثلاث نجمات، وأربعة مطاعم على نجمتين، وعشرون مطعماً على نجمة واحدة، يبدو التقييم طبيعياً حتى تعرف أن التنافس كان بين 500 مطعم في مدينة واحدة.
كنت ككثيرين أظن أن الناس تأكل لتعيش، حتى سافرت كثيراً واكتشفت أن تلك الحقيقة في دول الرفاه مختلفة جداً، فهناك حقاً من يحقق أمنية دليل ميشلان ويسافر على رحلة خاصة لتجربة فريدة في مطعم بعيد، مؤكداً نظرية أنه يعيش ليأكل!
ولا شك عندي أن البشرية قطعت شوطاً كبيراً من الأكل غير المطبوخ، حتى الوصول إلى اللحظة المفصلية، التي اكتشف فيها الإنسان النار. وكونها مصدراً للدفء أيضاً، فهي صديق جيد للجائع. فمنذ بدأ الإنسان بالطبخ حتى تراجع حجم فكه تشريحياً، ومنذ البسترة وغلي الحليب أصبح الإنسان أقل خوفاً وأكثر عشقاً لأشكال الحليب.
ولم يدُر في خلد موقد النار لإسكات جوعه واستكمال حياته، أن وظيفةً من أرقى وظائف العالم اليوم وأكثرها دخلاً، ستعتمد على الطبخ، وأن أجيالاً ستقطع الطرقات وتجد وقتاً لتقييم – غير مدفوع – قد يكرم طباخاً مغموراً بنجمة تضعه على الخريطة، وأن تعليقاً متذمراً قد يودي بحياة طاهٍ شهير.
كنت قبل أعوام مرافقاً للملك سلمان – يوم كان ولياً للعهد – في رحلة لليابان، وامتدت المأدبة، التي على طرفها الآخر جلس ممثلون عن أهم طبقات الشعب الياباني. لم يكن غريباً ولا مدهشاً – بعد أن أفنيت وقتاً طويلاً – مع دليل ميشلان، أن يكون على رأس المدعوين من الطرف الياباني طهاة جلسوا إلى جانب وجوه المجتمع من ساسة واقتصاديين!
الأسبوع الماضي كنت في أمستردام، حيث المعرض السنوي لتقنيات التلفزيون، ذهبت إلى فندق، أذكر أن أحد موظفيه بشّرني كما لو كان رُزق بولد، بأن أحد مطاعمهم حصل على نجمة ميشلان. سألت الصبية في الفندق ذاته: أين مطعمكم ذو النجمة الذهبية؟ كادت تبكي وهي تبلغني سحبها منهم. لكنها وللحق برّرت السبب، بأن هناك مؤامرة حيكت ضدهم لسحب نجمة ميشلان.
من قال إننا نحن العرب فقط من يؤمن بنظرية المؤامرة؟!
جميع الحقوق محفوظة 2019