أصعب أنواع الكتابة في تقديري هي تلك التي تتحدث فيها عن الرحيل. وإذا كان رحيلك عن المكان أو حتى الزمان صعباً، فإن رحيلك عن الإنسان يزداد صعوبة بما يتركه من ألم يصعب برؤه.
اليوم أكتب عن رحيل إنسان نادر، في ذكرى رحيله الثانية. أكتب اليوم عن صالح العزاز الصحافي والفنان الفوتوغرافي السعودي، الذي نعاه الناس كما الزعماء، مع أنهم لم يكونوا يرجون خلفه، ولا يطمعون بإرث محسوس، لكن إرثاً إنسانياً، غرس محبته في قلوب من عرفه، ولا أحسبني أبالغ عندما أقول إنه حاز محبة كثيرين ممن لم يعرفوه حتى بعد موته.
عامان مضيا على رحيل صالح العزاز، الذي كان شفيفاً كقطعة كريستال صافية وجميلة، أبيض كاللبن، نقياً كالماء، رحمه الله، وأصلح عقبه.
رحل الرجل الجميل مبكراً، وهو في مطلع الأربعينيات من العمر، وقد كان راضياً ببصماته التي تركها في دنياه.
سألته يوم زرته في مدينة “هيوستن” قبل أقل من أربعة أعوام تقريباً وهو يتعالج من (عش العنكبوت) كما وصفه هو، فقال لي: إنني لست جزعاً من الموت، فقد يكون دوري انتهى في عزف مقطع من السيمفونية.
في الخامس عشر من ديسمبر 2002 رحل صالح وهو في يستكمل علاجه في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض، بعد أن عاد من الولايات المتحدة التي قضى فيها نحو عام مريضاً، وكان قد دخلها مع أطفاله سائحاً، وخرج منها محمولاً على سرير طبي.
كتب العزاز عن المرض مقالات مثيرة ومؤثرة، وقد كان ذا قلم ينساب كما نسمات الهواء المنعشة، ويروي كما المطر.
كتب مقالة عن معاناته مع المرض فوسمها بـ”رحلتي مع عش العنكبوت: الحب في زمن الموت”، وفيها قال: أستطيع الآن فقط القول: إن تجربة المرض أقسى وأهم من تجربة الحياة، لأن المرض يكاد يبيد كل شيء لكنه في الوقت نفسه يحتوي على كل شيء، وما العمر والزمن إلا وهمٌ وغفلةٌ كما يقول أفلاطون”.
يتجلى وصف هذه العبارة “الأفلاطونية” المشحونة جداً في تلك اللحظة الكهربائية كأنها البرق يلمع في الظلام. تلك الفاصلة الزمنية التي تكشف لأحدنا دون مقدمات عن الوقوع في مصيدة المرض، كأنه الكابوس يجثم على صدرك وأنت نائم تسبح في بحر الأحلام. فما بالك إذا كان هذا الكابوس من النوع الخطير الذي تقشعر له الأبدان عن بعد، فكيف هي الحال إذا كان يعشعش في رأسك مثل العنكبوت. “ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير” (الحديد-22).
ثم تترقق حروفه تجسد التجربة بفن واصفاً نبأ إخباره بالمرض بأنه “مثل صوت انفجار قنبلة غادرة في حديقة تضج بالأطفال والعصافير في الحي الهادئ، وقد كنت منطلقا راكضا أسابق الريح مثل آلة الناي القديمة، مقبلا على الحياة غير متردد فيها وغير آبه بالأشياء الصغيرة، أقفز كل الحواجز بلا خوف ولا وجل، شعاري في الحياة (الحب أقوى من الكراهية). وإذا باللحظة الصعبة تقطع الطريق، وإذا به يمسك بخناقي، يشدني إلى الوراء يغدر بي كأنه الغول، يأخذني باتجاه لا أعرفه، يودعني حبس الألم القديم في التجربة التي لا تطاق، مع المجهول والغامض والكابوس والجن”.
رحمك الله أيها الرجل الجميل… وداعاً أيها الإنسان.
جميع الحقوق محفوظة 2019