لا أحد يتمنى الموت، وفي الأثر لا تتمنوا الموت، لكن بعض الميتات تكون أسطورية، فتخلد صاحبها. ولا يمكن أن يصنف رحيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إلا في هذا الإطار.
أتابع الفضائيات اللبنانية، وأتأمل المشهد داخل لبنان فأرى عجباً. الفضائية اللبنانية LBC على سبيل المثال أو حتى فضائية الجديد New TV كانتا من أكثر الجهات التي تترصد للحريري وتبحث عن سقطاته، وتتتبع زلاته، لكنهما تحولتا بعد حادث الاغتيال إلى قناتين تستخدمان بانتظام في تغطية أخبار رحيل الحريري وصف “الشهيد”، بانتظام واستمرارية، وهو وصف يتجاوز الخبر إلى الرأي.
منظر ضريح الحريري، تحول إلى سيمفونية وفاء من كافة الطوائف اللبنانية، في جزئيات التظاهرة اللبنانية الكبرى صورة رأيتها لشاب يعتمر علماً لحزب القوات اللبنانية الممثل لتيار عتيد من المسيحيين، يقف إلى جانب عجوز محجبة ليوقعا معاً كلمات وفاء على صورة كبيرة للراحل احتضنتها أحد جدران بيروت.
حشود المعزين إلى دارة الزعيم الراحل في قريطم قدرت بأنها تتجاوز المليون نسمة، ويقول المقربون من عائلة الفقيد إن أفراد العائلة نفسها كانوا في حالة مفاجأة بسبب حجم وشمول التفاعل المحلي، وباتت مقولة أن الحريري وحد اللبنانيين جملة تناقلتها الأفواه بتسليم وقبول منقطعين.
أرجو ألا أكون مبالغاً لو قلت بإن رفيق الحريري رحمه الله لو قُدّر له أن يرى آثار رحيله، لتفاجأ هو الآخر. وليس ببعيد أن الذين اغتالوا الحريري أنفسهم تفاجأوا من ردة الفعل المحلية والدولية، وربما اكتشفوا متأخرين أنهم ارتكبوا حماقة، ظنوا أنها ستنفعهم فانقلب السحر على الساحر.
الحريري، الزعيم السني، الذي تجاوز انتماءه الطائفي، ليخرج من ضيق الطائفة إلى سعة الوطن، والذي ظهر لعالم السياسة في لبنان دون أن يتكئ على إرث سياسي أو تاريخ عائلي، قدّم نموذجاً في العصامية. هذا الأنموذج، يحبه اللبنانيون قبل غيرهم، لأنهم يمارسونه كثيراً في حياتهم.
كانت النخبتان المسيحية والشيعية منقسمتين حيال رفيق الحريري، لكن هذا الانقسام تحول اتفاقاً ووحدة بعد رحيله الدامي، في وسط المدينة التي أعاد إعمارها، واستعاد بهجتها، وتبين من تداعيات وذيول اغتيال الحريري، وطرق الاستجابة المحلية، أن عامة الطوائف تقف إلى جانب الحريري، في حين أن نخبها كانت قبيل رحيله منقسمة عليه، واتفقت على أن لبنان يجب أن يتوحد على رفض الأجنبي ورحيله، واتفقت على نبذ الطائفية في سبيل وطن صغير الحجم، لكنه كبير بشعب يمتلئ حضارة وجمالاً وثقافة.
بل حتى من غمز من قناة الراحل بالأمس، من خصومه السياسيين، لم يملكوا بعد هذه المبايعة الشعبية والغضب العارم إلا أن ينسجموا مع هذا المزاج العام، فتحول الحريري من “بركيل قريطم” – وبركيل هي أشد الأفاعي سماً- كما قال عنه طلال أرسلان قبل عدة أيام من مقتله، إلى “شهيد لبنان”.
إن ضخامة رفيق الحريري لم تكن بسبب ماله ولا منصبه الحكومي، ولا بسبب علاقاته هنا وهناك، ضخامته كانت في عظمة ورصيد الحب الذي منحه إياه اللبنانيون، كل اللبنانيين، وهذا مالا يشترى ببضعة ملايين أو بعض الخطب الرنانة. إنها طاقة خير وحب تنتقل عبر جسور المال أو المساعدة بكل أصنافها. المال والمنصب يصبحان، في مثل هذه الحالة مجرد جسور تعبر عليها قوافل الحب والوفاء…
وهذا ما لا يتكرر إلا نادراً، وعلى أيدي رجال نادرين. الحريري كان واحداً منهم.
جميع الحقوق محفوظة 2019