قال لي صديق أميركي من أصل عربي إنه خرج مع ابنه الذي لم يتجاوز الثلاثة عشر ربيعاً في مظاهرة تمت في إحدى مدن الولايات المتحدة لصالح القضية الفلسطينية، وأن الأمور كانت طبيعية حتى استبد الحماس بأحد الإخوة المتظاهرين، فعمد إلى علم أميركي وحرقه في النار! يواصل صاحبي روايته: آلمتني الحادثة، لكني كنت أغض الطرف عنها عمداً، نبهني ابني أن هذا لا يجدر بالعَلم الذي ننتمي إلى جنسيته، فصرفت ولدي إلى ما يوقعنا في صراع الدهماء.
تذكرت على الفور بعد إن استمعت القصة إمام الجامع الذي كنا نتوجه لصلاة الجمعة فيه عندما كنت أدرس في شمال الغرب الأميركي. كان صاحبنا أميركيا من أصل فلسطيني، وكان فيما يظهر لي لا يرى صحة الخطبة إلاَ إذا لعن اليهود والنصارى من فوق منبر جمعة في الولايات المتحدة، جرياً على عادة أسبوعية.
كنت أرى أميركيين دخلوا إلى الإسلام تواً، وأسرح متأملاً في وقع هذا اللعن عليهم، وهو يصيب أمهاتهم وآباءهم وربما زوجاتهم وأصحابهم وزملاءهم في الحياة والعمل!
بعد أشهر قليلة، كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشؤومة قد وقعت. وقد اجتمعت إلى مجموعة من الطلبة الخليجيين في المدينة التي كنا ندرس فيها، وتناقشنا، فيما يمكننا أن نعمله، خشية من آثار ردة فعل الأميركيين المصابين بطعنة هجمات سبتمبر، ولو كانت الضربة أصابت الساحل الشرقي ونحن في الساحل الأميركي الغربي على مسافة خمس ساعات في الطائرة! اتفقنا على ألا نسير فرادى، وتحدثنا بترقب عن الجمعة المنتظرة، وهي أول جمعة بعد الاحداث.
عندما وصل الشباب العرب إلى شارع المسجد، كان تسارع دقات قلوبهم أشبه ما يكون بركض عدّاء نشيط، وازداد الخفقان، بعد أن رأوا اشكال مجموعات أميركية تحيط بالمسجد! اقتربوا بوجل، فاكتشفوا أن هذه المجاميع تشكلت من منظمات مسيحية، ومن “هيبيز”، حماية للمصلين العرب والمسلمين من أي هجمات قد تنشأ كردة فعل من الأميركيين تجاه “غزوة مانهاتن”!
كان المشهد ميلودرامياً، فالذين كان إمامنا يلعنهم كل جمعة، ويسأل الله أن يبددهم وأن ييتم أطفالهم ويرمل نساءهم، وإذا استبد به الحماس دعا الله أن ييبس الدماء في عروقهم، هم ذاتهم الذين جاءوا ليكونوا درعاً بشرياً من أجل صلاتنا!
أذكر أن معظم الحاضرين للصلاة كانوا يؤمنون بشكل ببغائي على دعوات الإمام التي كانت تغيظني، وأعترف أني كنت أجبن عن الاعتراض عليها بشكل علني، وأكتفي بحوار الغرف المغلقة مع بعض الزملاء، لكني حمدت الله كثيراً أنه لم يستجب لدعوات إمامنا وتأميننا ويفعل الأفاعيل بهؤلاء، إذ أن إجابة دعوة كهذه كانت كفيلة بأن نحرم من هذا الصدر البشري الذي جعلنا نصلي ونحن مطمئنون في عبادتنا. استمر الحضور الأميركي، وازداد إليه حضور حاكم الولاية، مدة خمسة أسابيع أو ستة، في كل جمعة. وقد كان الله رحيماً بنا إذ لم يجمد الدماء في عروقهم أو يلعنهم أو ييتم أطفالهم.
ما أحلم الله بنا، وما أحلم الكثير من الثقافات على نزقنا، وشوفينيتنا، وإحساسنا الطاغي بأننا وليس “أبناء عمومتنا”، شعب الله المختار، وما نحن – والله- إلا شعب الله المحتار!.
جميع الحقوق محفوظة 2019