يشدني بشكل مذهل الناس المنظمون· أعتقد أنني شديد الإعجاب بهم، وبخاصة إذا أفضى تنظيمهم إلى إنتاجية عالية· وبما أنني لست منظماً، أتوق إلى حياة منظمة وأعجب كثيراً بالمنظمين!
من مظاهر التنظيم التي أدعو إليها على الدوام ولم ألتزم بها يوماً، كتابة اليوميات، ففي بداياتي الصحافية، تعلمت أن أهم عنصر يجب أن أمارسه وبخاصة في الرحلات الصحافية هو كتابة اليوميات·
عندما سجلت اليوميات التي أعيشها، كَتبت تحقيقات صحافية أكثر تميزاً في تقديري من كتاباتي دون يوميات، استشرافاً للذاكرة، وإنْ لم يجف حبرها·
علمني زميل سوداني اسمه علي عثمان طه، لا أدري ماذا فعلت الدنيا به، أن أطوي ورقة التصوير البيضاء، من فئة 4A بالطول، فتصبح الورقة مقسمة إلى أربعة أعمدة في كل وجه، ثم أقوم بكتابة رؤوس أقلام تلخص حياتي اليومية منذ أن أستيقظ، أبدؤها بالساعة وأكتب ملاحظة عن النشاط وأبرز ما أواجهه من أشخاص وأحداث، وما أعيشه من أجواء·
لا يحتاج اليوم في الأحوال العادية إلى أكثر من ورقة من هذا النوع، ولو كان ممتلئاً بالنشاط، مكتظاً بالتفاصيل· عندما أعزم على كتابة التقرير أو التحقيق، فإن ورقتي هذه تُحيي تفاصيل اليوم في ذاكرتي، ويبقى أمامي الخيار لأنتقي ما أشاء·
ربما نجحت في كتابة يوميات الرحلات الصحافية، لكنني أعترف بفشلي الذريع في كتابة يوميات الإقامة والحِل· وكم من مرة حركني الحماس للكتابة فكتبت يوماً ثم توقفت شهوراً···
أمامي الآن نموذج جميل لإنتاج اليوميات يحمل عنوان ”بانتظار بدر البدور···”، كتاب ضخم لمؤلفه بطرس بطرس غالي، وهي يوميات كتبها الأمين العام السابق للأمم المتحدة بين عامي 1997 و2002 بداية بآخر يوم له في الأمم المتحدة·
وكان بطرس بطرس غالي قد كتب كتابين سابقين لهذا الكتاب، مستنداً إلى مذكراته اليومية هذه التي يدونها كل يوم، وفيهما كان يعود إلى مذكراته فينتقي ما يشاء، بل ما يناسب حالته وما يتوافق مع موضوع كتابه ليقوله للجمهور· وهذا ما أشار إليه غالي نفسه في كتابه من أنه ألزم نفسه بواجب التحفظ طيلة مسيرته السياسية والدبلوماسية، ولم يشذ عن هذه القاعدة في ”بانتظار بدر البدور···”، مع أن الناشر كتب على طرة الكتاب أن بطرس غالي ”تخلى للمرة الأولى عن لغة الدبلوماسية الملطّفة”·
بقي أن تعرفوا يا سادة أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كان جريئاً عندما اختار عنوان كتابه، فهو أشار إلى أنه خلال إحدى زياراته إلى الهند، اقترح عليه البعض أن يقابل عرافاً مشهوراً، وقيل لغالي إن من الممكن أن يأتي العراف إلى الفندق حتى يتجنب الأمين العام الإتيان إليه فيستفز فضوليي الصحافة، وهذا ما حدث، ففوجئ غالي بداية بهيئة العراف الشاب الأنيق، الذي كان ينتظره شيخاً كبير السن، حفرت السنون آثارها على وجهه· اختصر غالي حاجته من العراف بسؤال مباشر وصريح: ما هي حظوظي في ولاية ثانية لخمس سنوات أخرى أميناً عاماً للأمم المتحدة؟! لم يفصل العراف الإجابة على مزاج السائل، بل عالجه بإجابة حاسمه: لا آمل لك بذلك، ولسان حاله يقول: ”انسى يا باشا”! لكن لا أدري هل كان ذلك من باب المجاملة والتخفيف من أثر تأكيد خسارة غالي لولاية ثانية سكرتيراً عاماً للأمم المتحدة، قال له: إن نجمك في صعود وباتجاه بروز كبير وظهور لافت، فانساق غالي للتبصير، وبقينا معه بانتظار بدر البدور···!
جميع الحقوق محفوظة 2019