قبل أسبوع شاركت في حوار الشباب المسلم مع الشباب الدانمركي الذي عقد في أبوظبي عاصمة الإمارات، وألقيت ورقة فيه كانت تتحدث عن إشكالية الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم. وقلت فيما يتعلق بالمشكلة والحل أننا جميعاً بحاجة إلى أن نقر بأننا لم نكن نعرف بعضنا بعضاً بالشكل الكافي، بل كنا نخضع لأنماط فكرية وتصورات ذهنية مسبقة وجاهزة كالمعلبات الغذائية طويلة الأمد.
خاطبت الدانمركيين قائلاً: هل تريدون أن أنقل لكم شيئاً من التصورات الانطباعية لدينا ولديكم؟!
ربما كان معظمنا يتصور أن الدانمرك ليست سوى جملة من الأبقار تلتف حولها ثلة من البشر لترعاها وتدللها كما يقول إعلان “لورباك” الشهير، فقلة من الناس تدلل أبقارها، والدانمركيون ممن يفعلون ذلك!
على الجانب الآخر، لم تكن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة التي هي صلب المشكلة إلا تعبيراً صارخاً عن صورة انطباعية مبتورة ومبتسرة لواقع وصل إلينا عبر وسائط غير موثوقة المصدر.
إنها تظهر العربي في العادة على أنه بدوي في صحراء قاحلة يحيط نفسه بأربع نساء وبئر نفط تحت وسادته الذهبية التي ينام عليها بثيابه المتسخة! وهو إلى ذلك خالٍ من كل فضيلة، وحاوٍ لكل مثلبة ونقيصة، كما تصوره الذائقة الأوروبية التي نمت على يد المستشرقين الذين ابتسروا نتفاً من مشاهد موجودة في الشرق جمعوها في صورة كبيرة كما أرادوا هم أن يرسموها.
غني عن القول هنا، أنني عندما أتحدث عن المستشرقين في هذا السياق فأنا لا أنفي أدواراً فعالة لهم في صعد أخرى ليس هذا مكان بيانها!
صحيح أننا بدو، لكنْ في بداوتنا قيمٌ، إن لم تناسب من يعيش في أجواء الصقيع والجليد، إلا أنها تناسبنا نحن الصحراويين الذين اعتدنا على صيف لاهب تصل درجة حرارته إلى نحو 50 درجة مئوية.
صحيح أن لدينا من يعدد الزواجات، لكنهم استثناء من الكل، ونسبتهم تكاد لا تتجاوز الـ4 في المئة. وإذا أقدم المرء على هذا التصرف، بات موطن استغراب من الجموع.
أذكر أن قريباً لي تزوج قبل بضع سنوات بزوجة ثانية، وكانت أرملة، فقاطعته أمه وأخواته وبعض إخوانه، وتضامنوا مع زوجته، حتى طلق الثانية!
هذه حالة تتكرر وإن لم تكن سائدة لكنها نموذج يغيب عن الصور النمطية.
أما النفط، فهو موجود، لكن كل واحدٍ منا لا ينام على بئر منه، وفينا الفقير كما فينا الغني، كسائر شعوب الأرض.
أعرف أيضاً، أن الدانمرك لا يمكن أن تختزل ببقرة تدلل وزبدة أو جبنة تنتج مع أهمية ذلك، فمجتمعها مجتمع متحضر، والحرية بالنسبة له ليست خياراً بل ضرورة أكيدة، وقد توصل إلى آلياته وعاداته بعد سنوات طويلة من المخاض الفكري والسياسي والثقافي.
إن اختلاف الحضارات أمر طبيعي وصحي، وضروري للتطور، لكن النقطة ليست في الاختلاف ذاته بل في التعاطي معه، ولا أرى إلا خيارين أمامي، فإما الحوار وإما خراب الديار، وإما التواصل أو الصراع.
إن السخرية المقذعة ليست من الحوار في شيء لكنها وقود الصراع وحطبه الذي يوقد ناره لتكون أكثر حرارة، وفي أمثالنا أن: النار تحرق نفسها إن لم تجد ما تأكله!
إن لدى كل أمة مقدساتها التي وإن رفضتها الأمم الأخرى، لسبب أو لآخر، إلا أن السخرية من هذه المقدسات، هي نقض للحرية، لا استخدام لها، فقد تعلمنا أن حريتك يجب أن تقف عند حدود الإساءة لغيرك.
ولئن كانت الحرية مقدسة لدى الدانمركيين، وهذه قيمة جميلة، يجب أن نقر بها، فعليهم احترام حرية المسلمين في مقاطعة بضائعهم. أقول ذلك وأنا شخصياً كنت من المعارضين للمقاطعة، وقد نالني الكثير جراء موقفي هذا، الذي بنيته على قناعات شخصية، وعبرت عنه في مقالات منشورة.
في المقابل يجب أن أقول إن لدينا في العالم العربي والإسلامي أجنحة تبنت جانب الصراع بين الحضارات إجمالاً وفي القضية الدانمركية خصوصاً، فكانت تنال بين الفينة والأخرى من مقدسات الآخرين، كما في قضية هدم تماثيل “باميان” في أفغانستان، كأنموذج لذلك، لكن الغالبية تستنكر ذلك، ولعلكم تجولتم هنا في الإمارات فرأيتم هذا الكم الهائل من الجنسيات (190 جنسية) يمثلون ثقافات وديانات وأعراقاً مختلفة، كلها تمارس حضورها بشكل معقول.
إن الإعلام بتناقضاته وتضارب أهدافه يتوزع على مساحات الخلاف السابقة ويغذي كل طرف منه الجانب الذي اختار تأييده، والإعلام يستبطن -شعر أم لم يشعر- المقدمات السابقة، ليكون انعكاساً لواقع متناقض ومتضارب الأهداف ومتعدد المشارب، وكلما تحسن الواقع تحسن الإعلام والعكس صحيح.
جميع الحقوق محفوظة 2019