اتصل بي صديق فتح الله عليه مالاً وجاهاً، وسألني الحضور إليه، ففعلت، فحادثني وطيارتي توشك أن تقلع بعد هنيهة ما يزيد على ساعة عن تأملاته في الحضارات والدول وأسباب صعودها وانحسارها، ثم سقوطها بعد ذلك! في بداية حديثه، كنت أنظر إلى الساعة كل هنيهة خوفاً من أن لا يمكنني إدراك طائرتي، ما أوحى له بعجلتي، وعندما أصبح أكثر اختصاراً بات أكثر فائدة لي. قال لي: تعارفَ البشر مع التراكم الإنساني على عدد من القيم التي تحفظ حضاراتهم، كالصدق، والعدل، والكرم، والوفاء، وعدم الخيانة… وغيرها. أضاف: هذه القيم الإنسانية موجودة لدى معظم الطوائف، إن لم يكن كلها، وهم إما أن يتعاملوا معها على أنها قيم إنسانية مهمة للبقاء والتعايش المشترك، أو أن يرفعوها إلى السماء فيعتبروها قيماً سماوية. وبعيداً عن الأصوب، فإننا نحلل معطيات تجري على الأرض دون النظر إلى الصواب والخطأ. كنتُ أطرق رأسي مؤيداً لهذه المقدمة المنطقية، وأحذر مع ذلك ألا أقع فريسة لرجل غني بالمال يريد أن يمارس تنظيراً عليّ في قضايا فكرية تعتبر من جنس قول الشاعر: كأننا والماء يجري حولنا قومٌ جلوس، حولهم ماءُ! كان انطباعي، وصاحبي رجل الأعمال يتحدث، يتجه صوب كونه “يفسر الماء بعد الجهد بالماء”، حتى توقف في آخر محاضرته ليقول لي: إيماني بهذه القيم جعلني استخدمها في تجارتي، لقناعتي أنها سبب بقاء الأمم، وزوالها كان سبباً لزوال الحضارات والأمم، فمارستُ الكرم، والعفو، والتسامح، والصدق، والعدل. صمتَ صاحبي، برهة وسحب نفساً عميقاً، وأطلق تنهيدة، ثم قال بألم: لكن النتائج كانت تأتي عكسية! زاد: توقفت مع نفسي لأرى أين المشكلة؟! وأين تكمن الإشكالية؟! أفي النظرية؟! أم في التطبيق؟! أم في الأفراد؟! أنا مؤمن بالقاعدة تماماً، ولا يمكن أن تكون المشكلة في النظرية، فكيف يأتي الكرم والتسامح والعفو بآثارٍ عكسية؟! سكت قليلاً ثم واصل حديثه: كان لابد لي من أن أجد مكمن المشكلة… وقد فعلت! سألته: كيف؟! قال: بعد أن أطلت التأمل، وجدتُ أن لكل قيمةٍ حدَّ ذروة تستخدمها إليه، فإن زدت، فإن الزيادة تكون عليك وبالاً وعلى صاحبها، وتنقلب أثراً عكسياً عليك! واصل الحديث: إن إفراطك في الكرم، سيعتبره من تكرمهم تبذيراً، وسيقولون بأنك لا تعتبر حساباً للمال، وسيتطلبون منك المزيد والمزيد مهما أعطيت. أما إفراطك في العفو، فسيفسرونه ضعفاً وخوراً وعدم قدرة على القيام بنقيضه! وهكذا التسامح… وعندما هممت أن أسأل صاحبي، أجاب وكأنما التفت منتفضاً، وكأنما أمسك بلب الحقيقة في قبضة يده، وتمكن من العقدة على طرف لسانه، وقال: خصلة واحدة فقط، وجدتُها تخرج من القاعدة السابقة، فهي إن مارستها، وأوغلتَ في ممارستها وذهبت فيها بعيداً أنى شئت بعداً، فإن النتيجة لا تتأثر سلبياً! سألته فوراً: ما هي؟! أجاب: العدل! التقطت حقيبتي وذهبت مسرعاً إلى المطار، وأنا أتمتم: تجربة حقيقة بالتأمل! www.turkid.net [email protected]
جميع الحقوق محفوظة 2019