لا يمكن الجدال في أن مفهوم الجهاد مفهوم مركزي في منظومة التصور الإسلامي قديماً وحديثاً، وقد شكل- ولا يزال – الجزء الأوضح من صورة الإسلام، إنْ لم يكن في مرآة ذاتها، ففي مرآة الآخر من الأمم غير المسلمة غرباً وشرقاً. وقد أتت هذه المركزية لمفهوم الجهاد في كلا الجانبين نتيجة منطق القوة والتدافع التليد بين الأمم في التاريخ، فحين تجتمع لأمة أسباب الغلبة وعوامل النصر تتجه لغزو البلدان المجاورة، ومواجهة الأقوياء، وقلما يكون ذلك نتيجة نشر وعي حضاري أو رسالي خاص، وكان أكثر وضوحاً في تاريخ الإسلام في نظر بعض الباحثين، حيث كانت الدعوة للإسلام الهدف الأول والغاية التي تُقَدَّمُ على ما سواها، قبل الجزية أو القتال. فهدفُ الدعوة في الإسلام كان أصلاً مستقلاً، كما كان غايةً لسائر سلوكيات المسلم في تعامله مع الآخرين، ولم تكن غنائمُ الحرب أو مكتسباتُ الأرض يوماً ما الهدفَ المباشِرَ له، لكن تحرير مقاصد النفوس إنْ تحرر لشخص واحد، فمن المتعذر أن يصل إلى مرحلة من الرقي والسمو لدى الآلاف بطبيعة النفس البشرية! صعد مفهوم الجهاد ومركزيته في التصور الإسلامي، وهو تصور دَعَوي بالأساس، طردياً مع صعود القوة وفعلها في بنية المجتمع المسلم، بعد أن أنهكهم الاضطهاد، وتحولهم من جماعة معذبة ومقاطعة في مكة نالها من ويلات الكفار ما لا يتحمله إلا أصحاب الرسالات، تحولت هذه الجماعة عبر جسر الهجرة إلى المدينة إلى أمة… إلى كيان بتوجيه نبي قائد. وهناك وجبت الهجرة إليها على كل مسلم، حتى الفتح فتوقفت، حسب حديث النبي صلى الله عليه وسلم” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”، وكتب على المؤمنين فيها القتال ضد الكفار، وهو كُره لهم، بعد أن كان مندوباً إليه فقط، ثم كانت مرحلة الدولة حيث اتسعت حركة الفتوح خارج الجزيرة العربية، ثم كان صراع السيادة فيها بين مدعيّ استحقاقها من بيوت الخلافة، بعد العهد الراشدي، فكان صراع القوة والغلبة بين الأمة من ناحية وبين الأمم الأخرى من ناحية، وداخلها بين طوائفها وأشياعها من ناحية أخرى، حول الإمامة، سمها إن شئت السلطة باسم الإمامة، وهو الصراع الذي امتد عهداً بعيداً لا يقوم على شرعية إلا شرعية الجهاد لنصرة دين الله! لكن الخطورة كانت تتفاقم مع الوقت، فلقد استخدم الإسلامويون الجدد حماسة المسلمين وضعفهم وتضعضعهم وتخلفهم سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً، الجهاد لتحقيق مكاسب السيادة على الأقل، فها هو الراحل أبو الحسن الندوي يعتبر أن شروط الزعامة في المسلمين تتلخص في كلمتين خفيفتين بسيطتين متقاربتين هما الجهاد والاجتهاد، فيقول:” إن الزعامة الإسلامية تقتضي صفات دقيقة، واسعة جداً نستطيع أن نجمعها في كلمتين “الجهاد ” و”الاجتهاد”، فهاتان كلمتان خفيفتان بسيطتان، ولكنهما كلمتان جامعتان عامرتان بالمعاني الكثيرة”. وأكدت هذه القوى على أن استعادة الدولة الإسلامية شرط المجد والنهضة الإسلامية، بل لا طريق سواه، وبدأت أحكام الردة تتطاير ضد من يقول بغير ذلك، وصار مفهوم الجهاد أكثر فاعلية في مواجهة هؤلاء الذين صارت تُهَمُ الردة وفتاوى التكفير تلاحقهم وتوجب على قواعد الجماعات الأصولية التي اتجهت للتسلح استهدافهم! فأصبح قتل المسلمين في الداخل جهاداً عند هذه الجماعات، والأحزمة الناسفة طريقاً إلى العبور إلى الجنة بظنهم، وتفجير النفس وسيلة لينتقل من يفجر نفسه من ضيق الدنيا التي يعيش فيها المسلمون ضعفاً وخوراً، إلى سعة الآخرة، ولينعم بالتحليق مع سبعين حورية من الحور العين يزلن ما لدى المفجر نفسه من احتقان جنسي ونفسي… بل وعقلي!
جميع الحقوق محفوظة 2019