لا أدري ما سر هذا الانفلات في أدعية المنابر في خطب الجمعة، أو في أدعية القنوت، ففي رمضان تحديداً تنشط حالة الخروج عن المألوف والمشروع في الدعاء، وهو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بـ “الاعتداء في الدعاء”، أي التعدي على المشروع والطبيعي إما في نوعية الدعاء، أو في حالة الداعي. الدعاء ليس وسيلة للانتقام من المخالف ديناً أو فكراً أو مذهباً، وإنما هو صلة بين العبد وربه، وأصل تسمية “الصلاة” جاءت من “الدعاء” فهو وسيلة لمناجاة الإنسان لربه، وطلب العون والغفران، تلك هي صيغة الدعاء الأساسية والشرعية. المشكلة التي بدأت تتسلل إلى مفهوم الدعاء هي الاستخدام المعكوس لدعاء القنوت، حيث يقوم الإمام بتحويل الدعاء إلى خطاب عسكري تحفيزي مليء بالكراهية، فيبدأ بشرح للأوضاع السياسية في المنطقة، ثم يبدأ بتوزيع العقوبات وتوصيفها، بأسلوب فيه قلة احترام لمبدأ مناجاة الله تعالى، عندما يسأل الله: “لا تدع لهم طائرةً إلا دمرتها، ولا امرأة إلا رمّلتها، ولا رجلا إلا أهلكته”. وحينما يقوم بالدعاء على المخالف في المذهب أو الدين نسمع الصيغ المرعبة الآتية: “اللهم عليك بالفلانيين، اللهم جمد الدماء في عروقهم، وشلّ أركانهم، وأخرس ألسنتهم، واجعل الموت أغلى أمانيهم، واجعلهم يتمنون الموت فلا يجدونه”! أهذه صيغة مناجاة لله؟! إنها لا تعدو كونها بياناً تحريضياً عسكرياً وحزبياً، لا يعبر عن دين يقوم على السماحة، ويبث الرحمة، ويبحث عن نشر الهداية! بل إن ابن تيمية رأى أن ابتداع صيغ جديدة في الدعاء لغرض المداومة عليها ضرب من ضروب الاعتداء في الدعاء، وللأسف فإن جلّ الصيغ التي تطرح في أدعية القنوت هي من الصيغ الزائدة على الوارد في السنة النبوية. روى البخاري عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر وقد رفع رأسه من الركوع :”اللهم ربنا ولك الحمد في الأخيرة، ثم قال اللهم العن فلانا وفلانا فأنزل الله عز وجل: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون). فإذا نهى الله نبيه عن “الاعتداء” في الدعاء فما بالك بالأئمة العاديين الذين يقومون كل ليلة من ليالي رمضان الشريفة ببث أدعية انتقامية تؤسس لمبادئ الكراهية والعنف. من المهم أن نستمد مبادئ الدعاء من مشكاة الهدي النبوي، فالنبي عليه الصلاة السلام لم يدعُ على الكفار وإنما دعا لهم، حيث لجأ إلى ربه بعد أن ضايقه قومه أشدّ تضييق وقال: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، أما بعض الأئمة الذين غرقوا في انتماءاتهم الحزبية وخطاباتهم التحريضية فإنهم انشغلوا بنحت أدعية غريبة مرعبة لا تزيد المصلي إلا تحريضاً وكراهية، وإذا كان فقهاء الشريعة أكدوا على أن دعاء الله بما هو محال عادةً يعد من الاعتداء في الدعاء، فإن بعض الأئمة يدعون الله بأن يبيد كل الكفار، وهذا أمر محال عادةً وشرعاً، فالنبي لم يطلب من الله إبادتهم، بل عايشهم واحترم حقوقهم، والتزم بمعاهدات معهم، وباع واشترى منهم إلى حين موته، وفي الصحيح أن النبي “مات ودرعه مرهونةً عند يهودي”. ليكن رمضان شهر الحب أن ندعو لأبنائنا ووالدينا ومن يعزّ علينا، وأن لا ننشغل بالدعاء على من نكره، عن الدعاء لمن نحب.
جميع الحقوق محفوظة 2019