كلما زرت \”لندن\” أتذكر قيم الحضارة، وإذا كان الشيخ محمد عبده قال حينما زار أميركا: \”رأيت إسلاماً بلا مسلمين\” فإنني في لندن رأيت أيضاً إسلاماً بلا مسلمين. يكتب الفيلسوف الأميركي \”ول ديورانت\” في كتابه \”قصة الحضارة\” عن المدنية البريطانية: \”المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه، ليست المدنية البريطانية وليدة الرجل الانجليزي ولكنه هو صنيعتها\”. بمعنى أن المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب العظيم، والإنجليز ارتبط تاريخهم بالصعوبات والمرارات والدماء، ولم تنضج حضارتهم وأنظمتهم وقيمهم إلا بعد قرون من الغليان، كأن الحضارة تأتي بعد ولادات عسيرة ومخاضات طويلة، وأذكر أن محمد أركون علّق على علمانية فرنسا ووصفها بأنها علمانية \”نضجت بالدم\”. في (صحيح مسلم) من حديث الليث بن سعد عن موسى بن علي عن أبيه: إن المستورد القرشي- وكان عنده عمرو بن العاص رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس)، قال عمرو بن العاص – للمستورد القرشي- أبصر ما تقول! قال: وما لي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إن كان كذلك، فلأن في الروم خصالا أربعاً: الأولى: أنهم أحلم الناس عند الفتنة، الثانية: أنهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف… وزاد عليها خامسة حسنة جمية: وأمنعهم من ظلم الملوك. لقد رأيتُ تلك الخصال المذكورة في الحديث الصحيح عياناً بياناً أثناء زيارتي للندن هذه الأيام حيث رأيتُ الناس سعداء غير مبالين بالأزمة المالية العالمية التي تضررت منها بريطانيا، لكنهم سعداء في المقاهي والأسواق والتفاؤل تقرأه من عيونهم المتلألئة، تذكرت عمرو بن العاص لهم أنهم \”أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة\” لقد أفاقوا بعد مصيبتهم إفاقة مبهرة، بينما بعض دولنا العربية تترنح من آثار مصائب قديمة، ألم تفق ألمانيا بعد خمسين سنة فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية لتصبح ضمن أقوى خمس دول في العالم اقتصادياً وعسكرياً؟! بل انظر إلى صور لندن في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم تأمل جمالها الآن، وتذكر ما قاله أحد الأدباء الأوروبيين المتقدمين: إذا مللت لندن، فقد مللت العالم! قابلت في لندن سائق أجرة، من أصل نيجيري، فحدثني عن نيته الذهاب الى الحج، وقد تفاخر بأنه حج أكثر من عشر مرات. وجدتُ الرجل يتحدث باستياء من نقص الوعي لدى المسلمين الحجاج، وضعف مسؤوليتهم تجاه مجتمعهم، يتبين ذلك من ممارساتهم في ساحات الحرم. وجدت هذا الوعي الذي تشكل عنده كان من الصعب الوصول إليه لو أنه لم يكن قد أقام في بريطانيا منذ ثلاثين عاماً، ولكان حينها مارس ذات السلوك الذي انتقده. إنه الوعي الاجتماعي الجماعي الذي يتشكل في المجتمعات المتحضرة. سيقول قوم بأن في هذه المجتمعات جريمة بأعداد كبيرة. وأجيب بعد أن أوكد أن مجتمعاتنا أصلا ليست ملائكية، بأننا كثيراً ما ندين غيرنا بشفافيتهم وصدقهم في التعاطي مع مشكلاتهم، وبعدهم عن منهج النعامة التي تدس رأسها في الرمال، خوفاً من مواجهة الواقع. تلك هي الصفة الرئيسية والأوضح لدى الانجليز؛ هذا فضلا عن الخصال الأخرى التي ذكرت في الحديث أنهم \”أحلم الناس عند فتنة\” تخيلوا أن ضربة 11 سبتمبر كانت على دولة مسلمة لديها نفس قوة أميركا، هل كانت ستكتفي بما فعلت أميركا؟ إن الخصال التي ذكرت في الحديث يراها الزائر لأوروبا وأميركا، هناك حيث التجلي الحقيقي للحضارة والرقي والإنسانية، نتذكر أوصاف هؤلاء الذين وصفهم ابن العاص بهذه الأوصاف التي تجبرك على احترامهم وإن اختلفت معهم.
جميع الحقوق محفوظة 2019