بعد الأحداث الدامية التي عانى منها العالم خلال العقدين الماضيين، وتحديداً منذ تحوّل الإسلاميين إلى معسكر محرج، بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي، منذ نشوء ذلك المعسكر والعالم يشهد \”كرنفالات\” تحاول أن تبتكر طرقاً متباينة للتعامل مع الآخر المختلف. من الطبيعي أن نعترف أن ثقافات الشعوب تضمنت عبارات حادة ضد المخالف، حتى أوروبا قبل عصر التنوير أعدمت الكثير من فلاسفتها ومفكريها. نذكر الفيلسوف الإيطالي \”برونو\” الذي أحرقته الكنيسة حياً كردة فعل على آرائه الفكرية. والنظر في كتاب هاشم صالح \”مدخل إلى التنوير الأوروبي\”، يبين حجم المعاناة التي احتاجتْها أوروبا للخروج من التعامل العنيف مع المختلف فكرياً، بل ساهم \”التنوير الأوروبي\” في تجديد بعض أساليب تعامل الكنيسة مع الآخرين. لم يكن التنوير مقتصراً على المجتمع والمؤسسات، بل انعكست استنارة الناس على الكنيسة ذاتها، التي عرفت أن بقاء صلتها بالناس يتطلب تجديد أساليبها في التعامل معهم. في التاريخ الإسلامي نشطت أفكار \”الاغتيال\” خاصةً من قبل السياسي الذي يستخدم \”النخبة\” للإطاحة بالمعارضين السياسيين تحت ذريعة انحرافهم عن \”العقيدة\”، والمشروع الضخم، الذي قام به عبود الشالجي في كتابه \”موسوعة العذاب\”، والذي ضم مجلدات سبعة، يحكي تاريخ التعذيب والتنكيل في التاريخ الإسلامي. كان التاريخ الإسلامي مدججاً بحالات التعذيب والقتل والتصفية، وإلى اليوم ومع تمدد الحكومات العسكرية نشهد حالات اغتيال وتصفية شديدة الخطورة والدقة. لم يكن الفكر بمنأى عن الدم طوال التاريخ البشري. الفرق أن \”نهج التنوير\” الذي اختطّته أوروبا هو المعجزة، لكن التنوير لم يأت بين عشيةٍ وضحاها. إن وصول الأوروبيين للمستوى الذي هم عليه الآن من تسامح مع الآخرين جاء بعد قرون من الحروب، إذ أشرق التنوير بعد حربين عالميتين اتسمتا بالحمق وغزارة الدم، لكن العاقبة كانت حميدةً، فأعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، حولوا قارّتهم إلى اتحاد مثمر خلاق هو الأهم على مستوى العالم. كانت السنوات الماضية التي تلت أحداث التصفية والتفجير والاغتيالات محطّ نقاشٍ طويل بالنسبة للمهتمين في الفكر والإعلام بل حتى السياسة، وعقدت مؤتمرات مهمة حول \”حوار الأديان\”و\”صراع الحضارات\” وتناولت قضايا \”الإرهاب\” في تعبير عن قلق حقيقي لما آلت إليه \”ثقافة العنف\”، التي تأججت في العالم الإسلامي وساهمت في بلبلة الأمن حتى في أوروبا وأميركا، بل شكّلت ثقافة العنف والتصفية محور اهتمام على مستوى القوانين والأنظمة. وعدّلت الكثير من دول العالم المتحررة قوانينها المرنة، لتصبح أكثر صرامة وقسوة بسبب أحداث العنف، التي بات يهدد العالم في كل مكان. إن السؤال حول الموقف من الآخر هو \”الظلّ\” الذي يهمين على كثير من رؤية الغربيين للعالم الإسلامي، هل سيأتي اليوم الذي نشهد فيه تحول الرؤية الإقصائية للآخر، وقد تبددت أو تضاءلت على الأقل؟ خاصةً بعد أن ساهمت تلك الأحداث في تحويل \”الأمن\” إلى هاجس، حول العالم بمدنه إلى ثكنات عسكرية، فالإجراءات الأمنية والوقائية الكثيفة باتت تعطل مصالح الناس، وأصبح الإنسان كلأ مباحاً للتفتيش في كل جسده. لقد ساهمت ثقافة التصفية والاغتيال في خلق صعوبات كبيرة على البشرية، في عيشهم وفي سفرهم، والأنكى أنها جلبت لهم الخوف في الطائرات، والمؤسسات والقطارات، والمباني. لو أخذ الغربي في دراسة الإسلام، فإنه لن يدرس الإسلام بصفةٍ أكاديمية، إنه سيحكم على الإسلام من خلال أفكار أصحابه وتوجهاتهم من خلال أخلاقياتهم وسلوكياتهم لا سيما أصحاب الصوت العالي. من أجل تغيير موقف الآخر منا من الضروري أن لا نغير موقفنا منه فكرياً فحسب، وإنما تغيير سلوكي نحتاج من أجل تصحيح صورتنا أمام الآخر، إلى أن نغير موقفنا \”السلوكي\” منه، ليس فقط التغيير الفكري، نحتاج إلى الكثير من السلوك المتسامح، بعد عقد كامل من التنظير حول \”الفكر المتسامح\”، نتمنى أن نخطو الخطوات الأولى باتجاهه.
جميع الحقوق محفوظة 2019