عدتُ -بعد أن كتبت مقالتي الأسبوع ما قبل الماضي- عن “رومانسية سيد قطب” إلى كتاب “البروج المشيدة-القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر” للصحافي: لورانس رايت، والذي يقع في زهاء الخمسمائة صفحة، يسبر في كتابه الدهاليز والطرق والبيئات التي احتضنت رموز التنظيمات الإسلامية المسلحة. أدرك المؤلف أن الكثير من الباحثين تناولوا التأثير الفكري الذي ساهم في نمو بذرة التطرف في أدمغة أولئك الرموز، فأراد أن يشق طريقاً تحليلية مختلفة عن تلك الطرق التي سادت. استطاع أن يجعل من بيئات الرموز منطلقه الرئيسي لفهم أفكارهم. قد يعترض البعض محتجاً بأن البيئة ليست هي المساهم الرئيسي في تنشئة المتطرف. وإذا أخذنا نموذج أسامة بن لادن الذي رأى المؤلف أن تهميشاً قد ناله من قبل عائلته دفعه إلى إثبات ذاته عبر تبني “الجهاد”، فإن لمعترض أن يرد قائلاً: هناك مئات الشباب الذين تم تهميشهم من قبل أهلهم ولم يفعلوا ما فعله أسامة بن لادن. غير أن ذلك الاعتراض لا يعني أن البيئة هي المؤثر الرئيسي والنهائي في تفكير المتطرف، لكن من ناحية علمية فإن ما يتبناه الإنسان من أفكار لا يمكن أن يكون الدافع إلى تبنيها القناعة الذهنية، ما لم توجد منشطات ومحفزات غريزية أو ذاكرة منسية ودوافع لا واعية تحثه من حيث لا يشعر إلى تبني منهج أو الانضواء ضمن تيار. إن المسألة ليست بهذه الحدية الثنائية؛ البيئة أم التعاليم؟وإنما هناك تداخل عميق بين ذكريات البيئة، وبين نثار الأفكار التي يجدها في طريقه، في تعلمه في المسجد وفي المدرسة، وفي قراءاته. هناك وشائج غامضة بين البيئة التي تحتضن الطفل في سنواته الخمس الأولى، وبين ما يتبناه من أفكار ورؤى فيما بعد. أثناء قراءتي لكتاب “البروج المشيدة”، لفت نظري نموج سيد قطب، فهو لم يترعرع منذ البدء في وسط ديني فهو ليس مثل أيمن الظواهري، أو أسامة بن لادن، أو أبو حفص المصري. نشأة سيد قطب كانت مثالية لأن يكون الإنسان مبدعاً في مجاله، حيث درس في الولايات المتحدة الأميركية، وعاش في أحضان دفعته نحو القراءات في الأدب العالمي، واستطاع أن يشب عن الطوق، وأن يقرأ في النظريات الحديثة الكبرى. يقول “لورانس رايت” عنه: “كان قطب غربياً في كثير من الأشياء مثل ملبسه وحبه للموسيقى الكلاسيكية وأفلام هوليوود. وقد قرأ ترجمة أعمال داروين وآينشتاين وبايرون وشيلي وكان مغرماً بالأدب الفرنسي، لا سيما أدب فيكتور هوجو. ومع ذلك فقد كان قلقاً، حتى قبل رحلته هذه، من الاجتياح الكامل للغرب”. بقي قطب متردداً في قراءاته، لم يدخل في عمق المسائل التي تقلقه، كان يهرب منها، لم يكن يواجه أسئلته بعقلانية وحسم، لهذا بقي قلقاً لم يحسم خياراته عبر المزيد من المعرفة. من جهةٍ أخرى لم يكن قطب متبتلاً للاطلاع على ثقافة الغرب، كان مقلداً لهم في الشكل، لكنه إجمالاً كان يحيلهم إلى كيانٍ واحد، يقول عنه رايت: “كان يرى الغرب بأكمله على أنه كيان ثقافي وحضاري واحد. ولم يكن يميز بين الرأسمالية والماركسية والمسيحية واليهودية والفاشية والديمقراطية”. كان مسكوناً بهاجس الشرق والغرب، بالتقسيم الجغرافي، لم ينفتح على كوى الغرب الأخرى التي لم يشاهدها. وعلى كل حال فإن سيد قطب بدأ غربي الثقافة، وانتهى إلى “معالم في الطريق” كانت ردته عكسية، ونماذجها ليست كثيرة، بل قليلة، لكنها أخطر أنواع الارتداد، أن يبدأ الإنسان بثقافة منفتحة غربية التكوين لكنها ناقصة، ثم يتركها من دون أن يفهمها لأن وجيب الخوف، وطبول حرب القلق -حملت كل حماسته للاطلاع على الآخر- وقذفتها في اليم. إنها مسألة غريبة وغامضة، ولعل أعمق الأسئلة: كيف يتبنى الإنسان أفكاره؟ على أي أساس؟ ربما نقف مع هذا في مقالات لاحقة.
جميع الحقوق محفوظة 2019