أذكر أن مفهومنا للاستشراق كان مفهوماً سطحياً. كنا نظنّ أن كل المستشرقين عملاء تمّ دسّهم من قبل قوى ومنظمات سريّة على رأسها “الماسونية”. كان وصف مفكرٍ ما بـ”الماسونية” كفيلاً بإزاحته عن المشهد والتشهير به، وذلك قبل أن يكون الاتهام بالعلمانية سائداً. كان للشيخ عبدالرحمن الدوسري، الذي عاش بين الكويت والسعودية (1912-1979) أثر كبير في نشر مفهوم “الماسونية” بين التشكيلات الجديدة للإسلاميين في الخليج آنذاك. وحينما أرادوا تجسيد مثال على الجهد الماسوني في السعودية ضربوا مثلاً بـ”معهد الإدارة العامة”، مع أن المعهد مؤسسة تعنى بإعطاء الشباب دورات في الأنظمة واللوائح لتهيئتهم للعمل القانوني أو في مجال المحاماة. واعتبر مذاك اليوم الدارس في هذا المعهد مارقاً! ربما خفّ ذلك الضغط قليلاً لكنه لا زال موجوداً. إذا تصفّحنا “موسوعة المستشرقين” لعبدالرحمن بدوي، سنعثر على جهود كبيرة امتدت لقرون من قبل هؤلاء المستشرقين، صحيح أن بعضهم كان موظّفاً أو أجيراً لحكومته، وعلى الأخص في فترات الاستعمار؛ لكننا لا يمكن أن ننكرهم جميعاً، أو أن ننكر أثرهم على تطوير مجال الدراسات الإسلامية. وإذا أردنا أن نعرف المجال الذي اختطّه المستشرقون لتأسيس منهج بحثي مختلف فلنقرأ كتاب “آلام الحلاج” في ألف صفحة من تأليف المستشرق الفرنسي: لويس ماسنيون. نقرأ في هذا السفر الضخم جهداً استثنائياً، جعل من التاريخ لحادثة أبو الحسين الحلاّج مشروعاً أساسياً من مشاريع حياته العلمية، وأحرج ببحثه هذا –كما يقول بدوي- الكثير من الباحثين العرب الذين لا يجيدون ممارسة الأبحاث المنهجية، بل إن بدوي رأى أن الاستشراق انتهى بوفاة ماسنيون. في 23 مايو 2004 توفي المستشرق”مكسيم رودنسون”، وهو أحد أبرز الدارسين المعاصرين للإسلام، وهو مرجع في قراءة الإسلام في الكثير من دول العالم وكتاباته ومؤلفاته مثل: “محمد” (1961) و”الرأسمالية والإسلام” (1966) و”الماركسية والعالم الإسلامي” (1972) و”عظمة الإسلام” (1980) تُشكل أساس أبحاثه وصلب مؤلفاته التي تناول من خلالها تفاصيل عن الدين الإسلامي. وعلى الرغم مما تضمنته كتاباته وآراءه دفاعاً عن “القضية الفلسطينية” ومطالبةً بـ”العدالة للعرب”، فإنه وعلى طول تاريخه تعرض لهجوم شرس من أتباع الدراسات الإسلامية “المسلوقة” الذين يحزنهم جهد المستشرقين. كان “رودنسون” خيطاً استشراقياً حاول أن يصل الشرق بالغرب، يتحدث “أميل أمين” عنه في دراسة مميزة نشرت مؤخراً فيقول: (لم يكتف رودنسون بالتنظير في قضايا الالتزام والتفاهم بين الشعوب، بل تجاوز ذلك نحو واقع عملي، من خلال ترجمة التزامه هذا بدفاعه عن قضايا العرب والمسلمين ومواقفه المؤيدة لعدالة القضية الفلسطينية، وقد أنشأ مع المستشرق الفرنسي جاك بيرك مجموعة من الأبحاث والأعمال من أجل فلسطين ودافع عن خيار التزامه هذا أمام موجة كبيرة من الانتقادات والتهديدات وفي أيام نكسة يونيو 1967، نشر “رودنسون” مقالاً في صحيفة “لوموند” الفرنسية تحت عنوان “العيش مع العرب” نراه فيه يُذكِّر إسرائيل بأن القوة ليست الطريق، ذلك على رغم الانتصار الإسرائيلي على العرب في ذلك الوقت). ليس صحيحاً أن الاستشراق يجب أن يخضع لمنطق الخير والشر، بل هو مفهوم معرفي عريق. صحيح أنه الآن أصبح جزءاً من التاريخ، وذلك لارتباط الاستشراق بالاستعمار من ناحية النحت المفهومي، غير أن الاستشراق بمعناه الأوسع الذي يعني:”البحث في معارف الشرق وطبائع مجتمعاتهم”، لن ينتهي أبداً، هذا مع أنني أؤيد محمد أركون حينما يطالب بخروج الاستشراق من نفق التحليلات “الفيلولوجية” الصرفة إلى رحابة البحث في أحدث ما أنتجته العلوم الإنسانية، وهي الأدوات التي استخدمها محمد أركون ببراعة. هل يمكننا أن نتصالح مع بعض المستشرقين الذين قدموا لنا دراسات وإضافات نادرة، وأن نحتفي بكتاباتهم كجزءٍ من رحيق تراثنا وتاريخنا؟ هذا ما أدعو إليه بقوّة؟
جميع الحقوق محفوظة 2019