للتراث متعته وثراؤه، فهو التاريخ الفكري لنا نحن العرب والمسلمين، لأن التراث عبارة عن مادة خام، تحوي السلبيات والإيجابيات، لأن الذين عاشوا في التراث وألّفوه، وكتبوا رواياته هم بشر ممن خلق، يعتريهم النقص والسهو. لذلك فإن التنقيب في التراث لنقد الواقع أو تجديد أفكارنا الحالية عمل محمود وعظيم ومن ضمن الأعمال الفكرية والعلمية المهمة. والدكتور رشيد الخيون، يتحف قراءه كل عام بكتاب حول مسائل تراثية تمسّ الزمن والعصر، من “طروس في تراث الإسلام” إلى “معتزلة البصرة وبغداد” وغيرها من كتبه الثرية، التي تتناول التراث بعين العصر، وتنتقد الروايات بعقلية العصر التي تتطلب شروط الحياة لا شروط السكنى الأبدية في قناعات تراثية بحتة. في كتابه الجديد:”بعد إذن الفقيه”، ضرب الخيون مثلاً جديداً في التأليف، ذلك أن الكتاب صار عصيّاً على التصنيف، تارةً تقرأه على أنه كتاب فكري، وفي بعض ثناياه تشعر أنك أمام كتاب في النقد الساخر، وفي مناحٍ أخرى تقرأه بصفته كتاباً في التاريخ، إلى أن ترى في بعض أطرافه أحاديث في التفسير والحديث وبعض المسائل الشرعية. وهذه هي معادلة نجاح هذا الكتاب الذي كُتب بفطنة وذكاء حادين من رجل سبر التراث ويخرج لنا من جوفه الغرائب والعجائب والدرر والنوادر. والتراث بحر كبير كل من يعوم فيه يجد بغيته منه، لكن الرجوع الإيجابي إلى التراث يأتي حين يكون هدف الباحث تحرير الناس من أعباء الواقع المعاش، والذي تهيمن عليه الرؤى التراثية البحتة، والتي لم ينفك الناس منها، ولم يراجعوها حق المراجعة. جاء الكتاب منوعاً من الحديث عن المرأة، عن النساء والشرائع والأحكام، عن المرأة العراقية وإلغاء الأحوال الشخصية، عن السفور والحجاب ومعارك تحرير النساء، ومصافحة النساء بين النور والديجور، وعن ربات القصور وأمهات الأولاد، ليصل إلى أحكام اللحوم، والفقهاء والسرقة الأدبية. والمتعة التي يجدها القارئ في الرحيل بين رياضٍ وارفةٍ من النوادر والحكايا والأفكار والقصص لا توصف، لأنها رحيل من العصر إلى الماضي، لكن بعين العصر لا بعين الماضي وهذه هي الميزة التي امتاز بها كتاب الخيون الجميل. يعلم د. رشيد قبل تأليف الكتاب أن ذلك سيثير غضب البعض، لهذا هو يحترز في مقدمة الكتاب منهم مخاطباً إياهم: “هذا الكتاب أسميته (بعد إذن الفقيه) لأنني لستُ فقيهاً وسيقولها الغاضبون مما كتبت، لكن لي الحق، مثلما هو لغيري، في مناقشة ما يمسّ المجتمع والحياة من قضايا باتت خطرة يجري التعامل بها بجمود الدهر، وكأنه توقف عن الجريان مع أن كل شيء يتحرك حولنا وينطلق نحو الأمام، فليأذن لنا فقهاء العصر بالتعبير عما نظنّه لا يتوافق مع روح العصر”. الميزة الأخرى في الكتاب هي الحرص على “الشاهد التراثي” في كل قضية يتناولها في الكتاب الذي ناهز الأربعمائة صفحة، يقول الخيون: “حاولنا قدر الإمكان ألا نترك قضية بلا شاهدٍ تراثي بل جعلنا الشواهد هي التي تتحدث عن المفارقات في المباحات واللا مباحات، وفي المقدمة شؤون النساء في الزواج وحقهنّ في الميراث كما في إباحة أو تحريم مصافحتهنّ وما ذهبنا إليه أن في المصافحة بين الرجل والمرأة يتحقق شيءٌ من المساواة وهذا ما لا يريده أرباب التمييز بالدرجات”. إلى هذا الكتاب الجميل ألفت القارئ، وبخاصةٍ أننا ومع زحمة الكتب التي تطرح في السوق نفتقر إلى الكتاب الذي يجمع بين المتعة الفكرية والفائدة العلمية، وقد حقق رشيد الخيون لقارئه هذا السفر الممتع، الذي يأخذ القارئ إلى رحلات في عصور مضت ليرى صوراً اجتماعية متعددة، ليرى التراث بعيوبه وخصائصه ومميزاته، من دون تخندقٍ أو تقديس.
جميع الحقوق محفوظة 2019