خلال الأشهر الماضية، كنتُ مثل غيري أتتبع باندهاش سرّ السقوط المتتالي لتلك الأنظمة، من تونس إلى مصر، واليوم تئن ليبيا وسوريا واليمن تحت وطأة ظروف مشابهة. تعددت التفاسير، الكل يحلل ويناقش، منهم من يعزو كل هذا السقوط إلى الاستبداد المتنامي وتغييب التنمية، ورؤى أخرى تعتبر السقوط العربي نتج عن استبدادٍ سياسي، وبعض المنطلقين من آرائهم الثقافية والفكرية يعتبرون التغيير الجليّ والكبير في العالم العربي أحد القوانين التي عرفت من خلال السياسة والقوانين الطبيعية في الدول، ويستدلون بآراء عالم الاجتماع الكبير:”ابن خلدون”، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل كان للدولة بمعناها السياسي كجهاز يحرك المجتمع أي دورٍ في ذلك السقوط؟! من الذين أجابوا على هذا السؤال –حتى قبل التغيرات- الباحث المصري “جلال أمين” في كتابه:”مصر في عهد مبارك… على مشارف ثورة”، والذي طبعته “دار ميريت” سنة 2009. فقد أكد أمين على نظرية “الدولة الرخوة” وهو اصطلاح من ابتكار عالم الاقتصاد السويدي الشهير “جنار ميردال”، ويعني بـ”الدولة الرخوة” أنها:”الدولة التي تُصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأنه لا يوجد في الدولة الرخوة من يحترم القانون، الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشى لغضّ البصر عنه، وفي هذه الدولة تباع الرخص والتصاريح، ويعم الفساد، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة”. وهي نظرية ليست جديدة بل يقول جلال أمين:”عندما قرأنا ما كتبه الأستاذ ميردال في نهاية الستينيات عن الدولة الرخوة، لم يطرأ ببالنا قط أن كلامه يمكن أن ينطبق على مصر، فقد كانت مصر في ذلك الوقت أبعد ما تكون عن وصف الدولة الرخوة، ثم جاء عهد مبارك، وكان كل يوم يمر منه يأتينا بدليل جديد على رخاوة الدولة المصرية”! قلتُ: لاحظ أن هذا الكلام نشر سنة 2009 قبل أكثر من عامين على 2011 هذه السنة المقلقة للعالم. من الواضح أن النظرية الرخوة لها علامات، والحقيقة أن فكرة الدولة الرخوة التي تنتج القوانين ولا تطبقها، ويتشكل إثر ذلك فيها طبقتان، إحداهما قوية تستمتع بخرق القوانين، وثانية تسكت على هذه الخروقات مقابل إتاوات لتسهيل هذه الخروقات والسكوت عليها، ليست حكراً على الحالة المصرية، وإن كانت واضحة بينة فيها، بل هي حالة عامة لا تكاد دولة عربية تستثنى منها، مع الفارق بين دولة وأخرى، لجهة الارتخاء أكثر. أتمنى من الزعماء العرب قراءة هذا الكتاب، واكتشاف مضمونه حتى إن أي مواطنٍ حصيف يغلّب جانب الإصلاح السلمي على جوانب التغيير الدموي، لكن حينما تكون الشعوب مقهورةً مستباحة، تعيش تحت ضغوطات جمة فـ”الدولة الرخوة” لن تتمكن من حماية نفسها أو حراسة نظامها، والإمعان في حالة هذا الارتخاء يعزز أجواء التحولات، ويكون بيئة حاضنة لمناصرتها، لا يمكن قمعهم بالدبابات فكيف بالرصاص الحي! من كان يتوقع أن أنظمة بوليسية تكون بمثل هذا الإحراج السياسي والاجتماعي الذي تعيشه اليوم؟! إن نظرية “الدولة الرخوة” نبعت من دراسةٍ حصيفة جمعت بين الوعي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فهلاّ قرئ هذا الاقتصادي؟ هلاّ قرئ على الأقل كتاب جلال أمين؟ أتمنى أن لا يصح علينا قول دريد بن الصمة: امرتهم أمري بمنعرج اللوى … فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد!
جميع الحقوق محفوظة 2019