لله دَرُّ أبي الطَيِّب المتنبي، كَيفَ أَبدَعَ فِي حَدِيثِهِ عن الإحسان، بِبَيتٍ اعتَبَرَهُ الثَعَالِبِي من قَلائِدِ شِعْرِهِ!
وَقَيَّدتُ نَفسِي في ذَرَاكَ مَحَبَّةً وَمَن وَجَدَ الإِحْسَانَ قَيْداً تَقَيَّدَا
ويَمدَحُ مَن جُبِلَ على الإحسانِ، بقوله:
ثَنَى يَدَهُ الإِحسَانُ حَتّى كَأَنَّها وَقَد قُبِضَت كَانَت بِغَيرِ بَنَانِ
وفي بيت آخر:
لا يَستَكِنُّ الرُعبُ بَينَ ضُلَوعِهِ يَوماً وَلَا الإِحسَانُ أَنْ لَا يُحْسِنَا
ويُوَجِّهُ القرآن الكَرِيم، سُؤَالاً استنكارياً، بقوله تعالى: (هَل جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ؟). جاء في اللغة: «الإحسان، فعلُ ما هو خير للآخرين فضلاً ومحبة». ويُعَرِّف علي بن أبي طالب الإحسان بأَنَّهُ: «التَفَضُّل». يقول الحسن البصري: «الإحسانُ؛ أن تَعُمَّ ولا تَخُصّ، كالشمس والريح والغيث». والإحسان عند الراغب الأصفهاني: «فعل ما ينبغي فعله من المعروف، وهو ضربان؛ أحدهما: الإنعامُ على الغَيْرِ، والثاني: إحسانٌ في فعله».
وقالَ الرَّاغبُ فِي قَوْلِه تعالَى: (إِنَّ اللَّهَ يأْمرُ بالعَدْلِ والإِحْسانِ): «إِنَّ الإِحْسانَ فوْقَ العَدْلِ، وذَلِكَ أنَّ العَدْلَ: بأَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ ويأْخُذَ مَا لَهُ، والإِحْسان: أَنْ يُعْطيَ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ ويَأْخُذَ أَقَلَّ مِمَّا لَهُ، فالإِحْسانُ زائِدٌ على العَدْلِ، فَتَحَرِّي العَدْلِ واجِبٌ، وتَحَرِّي الإِحْسانِ نَدْبٌ وتَطَوّعٌ».
قال مصلح الدين سعدي: «أَغْلِب الدُّنيا بالإحسان والمعروف. كُن سَيِّداً في عالم الخير والإحسان. الإحسان صفة الصالحين، وما يتوجب على المفلحين».
ومن أمثال الشعوب: «لا لذة للإنسان كصنع الإحسان»، و«مِن ثَمَرَةِ الإحسان كَثرَةُ الإِخوان».
والإساءةُ ضِدُ الإحسان؛ وهما عند أبي حيان التوحيدي: «يَعُمَّان الأفعالَ والأقوالَ، فإذا رَسَخ اعتيادُهما استحالا خُلُقيْن». وهكذا رسخ الإحسان، فاستحال سَجِيَّةً وخُلُقاً عند ممدوحِ زُهَيرِ بن أبي سلمى، في بيته الذي قيل إنَّهُ أَمدَحُ بيتٍ قالته العرب:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئتَهُ مُتَهَلِّلاً كَأَنَكَ تُعطِيهِ الذِي أَنتَ سَائِلُه
وأَجْمِلْ ببيت كُشاجم الرّملي، في مدح المُحْسِن:
شَخَصَ الأَنَامُ إلى كَمَالِكَ فاستَعِذْ مِنْ شَرِّ أَعْيُنِهِم بِعَيْبٍ وَاحِدِ
ومن عِظَم مكانة الإحسان، ما ورد في الحديث: «إنَّ اللهَ كَتبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ»، أي: أمَرَ بالإحسانِ، في كل شؤون الدنيا، ومناحي الحياة.
ومن الأبيات السائرة، في الحث على الإحسان، قول أبي الفتح البُسْتِيِّ:
أحسِنْ إلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُمُ فَطَالَمَا استَعبَدَ الإنسانَ إحسانُ
وفي أمثال العرب: «الناسُ عبيدُ الإحسان».
وذَمُّوا اصطناعَ الإحسان تَكَلُّفاً، يقول المتنبي:
وَلَلتَّرْكُ لِلإِحسانِ خَيرٌ لِمُحسِنٍ إِذا جَعَلَ الإِحسانَ غَيرَ رَبيبِ
وفي شرح الواحدي: «كل محسن لم يتم إحسانه بتربيته وتعهده فتركُ الإحسان أولى به».
عندما يصبح الإحسان سجيةً، فإنّ المحسنَ يمارسه في السرّاء والضرّاء، وفي السلم والحرب، يقول أبو الطيب:
هُمُ المُحسِنونَ الكَرَّ في حَومَةِ الوَغى وَأَحسَنُ مِنهُ كَرُّهُم في المَكارِمِ
وَهُم يُحسِنونَ العَفوَ عَن كُلِّ مُذنِبٍ وَيَحتَمِلونَ الغُرمَ عَن كُلِّ غارِمِ
فهم يكرُّون في الحرب على أعدائهم، وكذلك يعودون في المكارم فيضاعفونها، ويكرِّرون فعلَهم، ولا يقتصرون في الأمْريْن على مرة واحدة، ويحسنون العفو عن كلّ من أذنب، ويحتملون أداء الغرامة لمن عليه غرامة، فهم في كلّ أحوالهم محسنون.
وترتفع قيمة الإحسانِ بإخفائه، بُعداً عن الرياء والتفاخر، وحفظاً لخاطر المُحسن إليه. مدح سهل بن هارون (وقيل: دعبل الخزاعي)، أَحدَ المحسنين في السِرِّ، فقال:
حُرٌّ إذا جِئتَهُ يوماً لِتَسأَلَهُ أَعطَاكَ ما مَلَكَتْ كَفَّاهُ واعتذرا
يُخفِي صنَائِعَهُ واللهُ يُظهِرُهَا إنَّ الجميلَ إذا أخفيتَه ظهرا
ومن إحسان الإحسان، أن يُتبَع بالنسيان. رأى محمد بن سيرين رجلاً يقول لصاحبه: فعلتُ لك كذا، وصنعتُ من أجلك كذا… فقال له ابن سيرين: «اسكُت! فلا خير في المعروف إذا أُحْصِيَ»!.
قَالَ رجل لعائشة: يا أم المؤمنين متى أعلم أني مُسِيءٌ؟ قَالَت: إذا عَلِمتَ أَنَكَ مُحسِن.
إن جمال الطَّبْع (الإحسان)، ينعكس على جمال المتطبِّع به (المحسن)، لذا قال أبو الطيب:
فَأَحسَنُ وَجهٍ في الوَرى وَجهُ مُحسِنٍ وَأَيمَنُ كَفٍّ فيهِمُ كَفُّ مُنعِمِ
وذهب البعض إلى أن الناس يُثْنون على المحسن، يقول الشاعر:
الناسُ أَكيَسُ مِن أَن يَحمَدوا أَحَداً حتى يَرَوْا عِندَهُ آثارَ إِحسانِ
وخالفه غيره، مؤكداً أن الأصل في الناس الجحود، وخلافاً لصواب أحد الرأيين أو خطئه، فالواجب أن يكون الدافعَ إلى الإحسان، الإيمانُ به، لا ما يجرُّه من حمد، وهو سبب الحث على إخفاء الإحسان.
ومن بليغ الإحسان: ألا يحتقره القادر عليه، مهما بدا صغيراً، ففي الحديث: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تُفرِغَ من دلوكَ في إناء المستسقي، ولو أن تُكَلِّمَ أخاك ووجهُك إليه منبسط».
يقول ابن زنجي:
لا تَحْقِرَنَّ من الإِحسانِ محقرةً أحْسِنْ فعاقبةُ الإِحسانِ حُسنَاه
قال عبد الله بن جعفر: «لا تَسْتَحِ من القليل؛ فإن البخل أقلُّ منه، ولا تجْبُنْ عن الكثير فإنك أكثر منه».
ومن الاتقان، اختيارُ موضع الإحسان، والبدء بالقريب؛ فالأقربون أولى بالمعروف، وفيه أنشد، حسّان بن ثابت:
إِنَّ الصَنيعَةَ لا تَكونُ صَنيعَةً حَتّى يُصابَ بِها طَريقُ المَصنَعِ
فَإِذا صَنَعتَ صَنيعَةً فَاعمَل بِها لِلَّهِ أَو لِذَوي القَرابَةِ أَو دَعِ
ومن إحسان الإحسان، ألا يجعل معروفَه في غير أهله؛ فيكون مثل «مُجِيرِ أُم عامرٍ»، كما يقول المثل العربي القديم. و«أم عامر» كنية الضَّبُعَةِ، ولها قصة طريفة. يُحكى، أن قوماً من العربِ كانوا يطاردون ضَبُعَةً، في يوم صيف لاهب، فلجأت إلى خيمة أعرابي، وهي تلهث من الركض، والعطش، والشمس، فخرج الأعرابي إلى المطاردين، وسألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: صيدنا وطريدتنا. فقال الشهم: إنها في جِوَاري، وسأحميها بسيفي! فتركه القوم وانصرفوا. وقَدَّم الأعرابي الكريم لضيفته حليباً طازجاً من شاته، فشربت، وارتاحت، ونام؛ فانقَضَّت عليه وبَقَرَت بطنه، وشَرِبَت من دمه، وانصرفت!
فقل لذوي المعروف: هذا جزاء من بدا يصنع المعروف في غير شاكر
ومن آثار الإحسان أنه يجلب السعادة للمحسن، يقول محمد الهندي:
وأسعدُ العالمِ مَن قَدَّم الـ إِحسانَ في الدنيا ليَنجو غَدا
ويحثُّ الدَّمِيريُّ على ألا تختار في كل أمر غيرَ الإحسان:
إذا كُنتَ في أَمرٍ فَكُنْ فيه مُحْسِناً فعما قليلٍ أنتَ ماضٍ وتارِكُهْ
ويزداد كمال الإحسان، بيقين صاحبه بحسن العاقبة، وهو ما أكده شوقي:
وكُل سَعيٍ سيَجزِي اللهُ ساعِيَهُ هيهَاتَ يَذهَبُ سَعيُ المحسنين هَبا
وللإحسان ديون، فأولى الناس بالإحسان؛ من سبقونا بإحسانهم، وفي الأَثَر: «من صنع إليكم معروفاً فكافئوه».
المعروفَ رِقٌ، والمكافأة عِتقٌ، و(رحمة الله قريب من المحسنين).