بقلم: تركي الدخيل
١٣ مارس ٢٠٢٤
تقول كُتُب التراجِم إن الصحابي الجليل، عبد الله بن عباس، حبر الأمة، وترجمان القرآن، رضي الله عنه وعن أبيه، كان فقد بصره في آخر حياته.
وليست كتب السير والتراجم وحدها التي نقلت لنا خبر فقد ابن عباس بصره، بل إن كتب الحديث، نقلت لنا الخبر أيضاً!
ففي مسند أحمد: (٢٣٧٧) أن رجلاً سأل ابن عباس عن الوضوء مما مست النار من الطعام، قال: فرفع ابن عباس يده إلى عينيه، وقد كف بصره، فقال: “بصر عيناي هاتان، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، توضأ لصلاة الظهر في بعض حجره، ثم دعا بلال إلى الصلاة، فنهض خارجا، فلما وقف على باب الحجرة، لقيته هدية من خبز ولحم بعث بها إليه بعض أصحابه، قال: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه، ووضعت لهم في الحجرة، قال: فأكل وأكلوا معه، قال: ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه إلى الصلاة، وما مس ولا أحد ممن كان معه ماء، قال: ثم صلى بهم”.
وهنا تأكيد لخبر كف بصر ابن عباس، في كتاب من كتب الحديث، لا كتب التراجم والسير.
والغريب، أن ابن عباس، كف بصره، ووالده العباس بن عبدالمطلب، كف بصره، وجده عبدالمطلب بن هاشم، كف بصره أيضاً، وهي نادرة أن يتفق سلسلة من ثلاثة أجيال، ابن، وأب، وجد، في فقد البصر.
وذكر ابن قتيبة، استناداً إلى النادرة ذاتها، أن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، قال لابن عباس، رضي الله عنهما: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم.
فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
وإجابة ابن عباس، من الأجوبة المسكتة.
وذكره ابن عبدالبر، في (بهجة المجالس).
وأبو العباس، عبدالله بن عباس، من صغار الصحابة عُمراً، ومن كبارهم عِلماً، يوقره كبار الصحابة قبل صغارهم، في دليل على تقدير العلم من جهة، وبما يُظهر صورة ناصعة لرفع العِلم لأهله من جهة أخرى.
كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يحبه ويدنيه ويقربه ويشاوره مع أجِلَّة الصحابة.
يقول الفاروق: ابن عباس، فتى الكهول، له لسان قؤول، وقلب عقول.
أما عبدالله بن مسعود، فيقول: نِعم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا ما عاشره منا رجل.
وُلِد ابن عباس في شعب بني هاشم، قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ابن 13 سنة.
قال مجاهد: ما سمعت فُتيا أحسنُ من فتيا ابن عباس، إلا أن يقول قائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال طاوس: أدركت نحو خمسمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ذاكروا ابن عباس فخالفوه، لم يزل يُقررهم، حتى ينتهوا إلى قوله.
وخرج أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان حاجاً، ومعه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب ممن يطلب العلم.
يقول مسروق: كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلتُ: أجمل الناس. فإذا تكلمَ قلتُ: أفصح الناس. وإذا تحدثَ قلتُ: أعلم الناس.
فلا غرابة أن يكون من ألقاب ابن عباس: البحر، وحبر الأمة، وفقيه العصر، وإمام التفسير، خلافاً لكونه ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم – العباس بن عبد المطلب.
قال ابن عباس: ضمني الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “اللهم علمه الحكمة”. ودعى عليه الصلاة والسلام لابن عباس، فقال: “اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل”.
كان عمرو بن دينار، يقول: ما رأيت مجلسا أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس: الحلال، والحرام، والعربية، والأنساب، وأحسبه قال: والشعر.
ونُقِل عن عبيد الله بن عبد الله، قوله: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسنة، ولا أجل رأيا، ولا أثقب نظرا من ابن عباس، ولقد كان عمر يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين.
نظر معاوية إلى ابن عباس، وهو يتكلم فأتبعه بصره، وقال متمثلا:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل مصيب ولم يثن اللسان على هجر
ويصرف بالقول اللسان إذا انتحى وينظر في أعطافه نظر الصقر
ووصف مجلسه القاسم بن محمد، فقال: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه، وكان أصحابه يسمونه البحر، ويسمونه الحبر.
قال عبد الله بن أبي بن أبي زيد الهلالي:
ونحن ولدنا الفضل والحبر بعده … عنيت أبا العباس ذا الفضل والندى
نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه غالباً عليه، فقال: من هذا الذي برع الناس بعلمه، ونزل عنهم بسنه، قالوا: عبد الله بن عباس، فقال فيه أبياتا منها:
إني وجدت بيان المرء نافلة … تُهدَى له ووجدت العيَّ كالصممِ
والمرء يفنى ويبقى سائر الكلم … وقد يُلام الفتى يوماً ولم يلمِ
ولله ما أحلى، وأزكى، أبيات حسان بن ثابت، في أبي العباس، وما أحقُه بها، إذ قال:
إِذا ما اِبنُ عَبّاسٍ بَدا لَكَ وَجهُهُ رَأَيتَ لَهُ في كُلِّ أَحوالِهِ فَضلا
إِذا قالَ لَم يَترُك مَقالاً لِقائِلٍ بِمُلتَقَطاتٍ لا تَرى بَينَها فَصلا
كَفى وَشَفى ما في النُفوسِ فَلَم يَدَع لِذي إِربَةٍ في القَولِ جدّاً وَلا هَزلا
سَمَوتَ إِلى العَليا بِغَيرِ مَشَقَّةٍ فَنِلتَ ذُراها لا دَنِيّاً وَلا وَغلا
خُلِقتَ خَليقاً لِلمَوَدَّةِ وَالنَدى فَليجاً وَلَم تُخلَق كَهاماً وَلا جَهلا
روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا غُلَامُ إِنِّي مُعْلِمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, وإذا سألت فاسأل اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ”.
وحدِّث ابن عباس، فقال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم.
قال: ما تقولون في قول الله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح) فقال بعضهم: أُمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نَصَرَنَا وفَتَحَ علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئا.
فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: (إذا جاء نصر الله والفتح)، وذلك علامة أجلك، (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).
ولم يبلغ ابن عباس مرتبته العلية في العلم إلا بالمثابرة وتتبع منابع العلوم، والجد في الطلب.
ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال له: مَه يا ابن عمِّ رسول الله. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال العباس لولده عبد الله: يا بُني أرى أمير المؤمنين (يعني عمر) قد قرَّبَكَ وأَدنَاكَ وَأَجلَاكَ، فأحفظ عني ثلاث: لا تفشين له سرا، ولا يخزن عليك كذبا، ولا تغتابن عنده أحدا.
قال الشعبي: قلت لابن عباس: يا ابن عباس، كل واحدة خير من ألف. قال: ومن عشرة آلاف.
وعن عطاء، قال: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقها، وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع.
وقال طاووس: رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تداولوا في أمر، صاروا إلى قول ابن عباس.
وشتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني وفي ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه، ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ومالي بها سائمة ولا راعية، وإني لآتي على آية من كتاب الله تعالى فوددت أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما قد عمي في آخر عمره. وروي عنه أنه رأى رجلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعرفه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:أرأيته؟ قال: نعم. قال: ذلك جبرئيل، أما إنك ستفقد بصرك، فعمي بعد ذلك في آخر عمره، وهو القائل في ذلك، فيما روي عنه من وجوه:
إن يأخذ اللهُ من عينيَّ نورهما … ففي لساني وقلبي منهما نورُ
قلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي دخلٍ…وفي فمي صارمٌ كالسيف مأثورُ
مات البحر الحبر بالطائف سنة 68 هـ، أيام عبدالله بن الزبير، وكان ابن الزبير أخرجه من مكة للطائف، فمات بها، وهو ابن 71 عاماً، فرضي الله عنه وأرضاه.