رُوِيَ أن معاوية بن أبي سفيان، قال لمروان والأسود: «أمددتما عَلِيّاً بقيس بن سعد، وبرأيه ومكايدته، فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل، ما كان بأغيظ لي من ذلك»، فَعَدَّ رأي قيس بن سعد في المعركة، أكثر قيمة وأهمية وجدوى من 8 آلاف مقاتل!
ولا غرابة، فمن قلائد شعر المتنبي، قوله:
الرأيُ قبلَ شَجاعةِ الشُّجْعانِ… هُوَ أوَّلٌ وَهْيَ المَحَلُّ الثّاني
وكُنَّا في مقال سابق، نُبحِر في بيتِ أبي الطيب:
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومٍ… فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
والبيت مَطلَعُ قصيدة للمتنبي، والمطلع بيتُ القصيدة الأول، وتميز البيت في مبناه ومعناه، يؤكد إحدى خصائص شعر أبي الطيب: «حسن المطالع»، أو «حُسن الافتتاح».
في كتاب: «العمدة في محاسن الشعر»، يقول ابنُ رَشِيق القيرواني: «إنَّ حُسنَ الافتتاحِ داعِيَةُ الانشراحِ، ومَطِيَّةُ النَّجَاحِ»، إنَّ «الشِّعرَ قُفْلٌ أَوَّلُهُ مِفتَاحُه، وينبغي للشاعِر أَن يُجَوِّدَ ابتداءَ شِعرِهِ، فإِنَّه أوّلُ ما يَقرَعُ السَّمعَ، وبِهِ يُستَدَلُّ على مَا عِندَهُ مِن أَوَّل وَهلَة». ولَم تعتَنِ آدابُ العالم بمَطَالِع نُصوصِها الشعريةِ، مثلما اعتنى بها أدبُنا العربيّ، بل ومَجَّدَ أنواعَها، وقال فيها نُقَّادُه ما قالوا، استحساناً لمَطْلَع أو استهجاناً لآخر.
ويذهَبُ بي الظّنُّ إلى أنّ الشاعرَ العربيّ، وهو يُجوِّدُ مطلعَ قصيدته، إنما يقطِّرُ فيه روحَه كلَّها، فلا يَبْقى منه خارج اللغةِ، سوى لَحْمٍ له وعَظْمٍ باليَيْن. فإذا كلّ مَطْلَعٍ لقصيدة؛ تجريبٌ من الشاعر لحياةٍ ممكنةٍ، قد تطلع من بيته الشعريّ، وتسري في ملكوت القصيدة، وتظلّ تُشرقُ من هناك على أكوانٍ من التأويل كثيرةٍ.
إنَّ مَطْلَعَ القصيدةِ في فلسفة الشِّعر العربي فَجْرٌ، وما الشاعرُ إلاّ ذاكَ الإنسانُ الحالِمُ بأن يجعلَ كُلَّ حياتِه فَجْراً.
ولأبي الطيب في هذا الباب قدحٌ مُعلًّى من نجاحٍ جالبٍ لانشراحٍ، وفَجرٍ طويلٍ مُمتَدٍّ، فمن بديع مطالعه، ما استشهدنا به أول المقال، وهو قوله:
الرأيُ قبلَ شَجاعةِ الشُّجْعانِ هُوَ أوَّلٌ وهْيَ المَحَلُّ الثّاني
قال ابن حمدون، في «التذكرة الحمدونية»: «لحق أبو الطيب المتنبي الأوائل»، بهذا البيت. وعَدَّه ابن تيمية: «من حكمة الشعر عن أبي الطيب».
أما ابن جني، فَعَدَّ: «هَذَا الْبَيْت وَحده لَو كَانَ فِي شِعرِ شَاعِرٍ لَجَمَّلَهُ كُله».
ولبراعة البيت، عدَّه الثعالبي مثالاً لإرسال المثل، والموعظة، والناس، والدنيا، وما يجري مجراها في مِصراعِ البيت الواحد.
فلا غرو أن تكون الشجاعة الحقيقية نابعة من الرأي العاقل، وكُلُّ شجاعة منبعها غير رأي العقل مؤدية إلى سوء المنقلب.
والرأي في اللغة: نظر وإبصار بعين أو بصيرة، فالرأي ما يراه الإنسان في الأمر، يُقال: رأيته رأي العين، أي: ما وقع عليه البصر. وعند الفقهاء، كما في «إعلام الموقعين» لابن القيم الجوزيَّة، الرأي: «هو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات».
قال ابن القيم، في كتابه: «الفروسية المحمدية»: «والناس ثلاثة: رجلٌ، ونصف رجل، ولا شيء. فالرجل: من اجتمع له إصابة الرأي والشَّجاعة. ونصف الرجل: هو من انفرد بأحد الوصفين دون الآخر (الرأي والشجاعة). والذي هو لا شيء: مَن عَرِيَ من الوصفين جميعاً»!
ونقل أبو هلال العسكري في «ديوان المعاني»، عن أبرويز كِسْرى الثاني، أعظم ملوك الإمبراطورية الساسانية، قوله لجُندِهِ: «لا يَشحَذ امرؤ منكم سيفه، حتى يشحذَ عقله»، ثم قال: «أَلَمَّ المتنبي بذلك، فقال: الرأيُ قبلَ شَجاعةِ الشُّجْعانِ… هُوَ أوَّلٌ وهْيَ المَحَلُّ الثّاني».
وقد توافق كل من كتب عن الحُكم، على وجوب توافر الرأي السديد للحاكم، وأجمعوا على الاستشهاد ببيت أبي الطيب.
يقول ذو الرئاستين؛ الفضل بن سهل: «الرأي يسدّ ثلم السيف، والسيف لا يسدّ ثلم الرأي».
ومَدَحَت العرب الأَناة في الرأي، وعدم الاستعجال في القرار، واستعاذوا بالله من الرأي الفطير، والرأي الدَّبَرِيّ. والفطير: هو الذي أعجل به صاحبه قبل أن يختمر. أما الدبري: فهو الذي يأتي في دُبُر الحدث، أي بعد انقضائه.
ويتم معنى بيتنا الأبيات بعده:
الرأيُ قبل شجاعةِ الشجعانِ … هو أول وهيْ المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مُرَّة … بلغتْ من العلياءِ كلَّ مكان
ولربما طعن الفتى أقرانَه … بالرأي قبل تطاعن الأقران
لولا العقولُ لكان أدنى ضيغمٍ … أدنى إلى شرف من الإنسان