(24) أَرَقٌ عَلَى أَرَقٍ وَمِثْلِيَ يَأْرَقُ * وَجَوًى يَزِيدُ وعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
هذا البيت من مطالع قصائد أبي الطيب المتنبي، وجُلُّ مطالعه يجعل موضوعها النسيب، وبيت القصيد مثلها.
أرق: الأَرَقُ: هو امتناع النوم وفقده، والأرقُ هو السَّهَرُ، عند من لم يفرِّق بينهما.
قال الكفوي: «الأَرقُ: هو ما استدعاك. والسَهَرُ: هوَ ما استدعيتَهُ. وقيل: السهر في الشر والخير، والأرق لا يكون إلا في المكروه». (الكُليَّات).
والجوى: هو الحزن الكامن في أعماق الإنسان.
والعبرة: الدمعة قبل خروجها من العين.
وتترقرق: تسيل.
المعنى: كما ذكرنا أن البيت موضوعه النسيب، وهو الغزل، فالشاعر يتحدث عن حالته التي تسبب بها عشقه، فهو يقضي لياليه في أرق على أرق، أي تجافى النوم عن عينيه، تجافياً بعد تجافٍ، ومن كان مثله ليس له إلا أن يتجافى عنه النوم. ليس هذا الأرق فحسب، هو ما ينال الشاعر العاشق وأمثاله، بل تأجُّج الأحزان في أحشائه، وتتحول عبراته دموعاً تترقرق، وتسيل.
ومن جماليات بيت المتنبي، أنه أنتقى للتعبير عن سيل دمعه، كلمة (تترقرق)، وهي كلمة تحقق بها الجناس مع كلمة (أرق)، التي استخدمها مرتين، وثالثة بصيغة مشتقة (يأرقُ)، كما أن في الكلمة إشارة إلى (الرقة)، وهي كلمة معناها يتناسب مع حالة عشقه، وامتناع النوم عنه، ودمعه الرقراق، وحزنه الشجي.
(25) إِذَا تَرَحَّلْتَ عن قَومٍ وقَدْ قَدَرُوا * أَلَّا تُفَارِقَهُمْ فَالرَّاحِلُونَ هُمُ
يقول أبو الطيب في هذا البيت، الذي تبدو لوعة الفراق ظاهرة فيه، أياً كان الراحل من الفريقين: إذا رحلتَ عن قومٍ وتركتهم، وهم قادِرونَ على إبقائكَ، ومنع سبب مفارقتك لهم، فهم المُرتحِلون، وإن لم يجاوزوا موقعهم.
إن الراحل الذي تعارف الناس عليه، هو الذي يحمل عصاه ويسير من الموضع الذي كان فيه إلى موضع غيره، سواء كان يعرف مقصده، أو كان الترحال هو المقصد، وإن لم يُحَدِّد له هدفًا يمضي إليه…
لكنَّ أبا الطيب يمارس في شعره إحدى هواياته المحببة، وهي وضع تعريفاته للمفاهيم والأفكار والأشياء والأشخاص، بناء على مباني مفاهيم القيم التي يؤمن بها.
ومن تعريفات المتنبي أنه يعتبِر الراحل هو المُفَرِّط بصاحبه، ولو كان مقيماً رابضاً في مضاربه، لكنه رحل عن قيمة المحافظة على إنسان له قيمة، ولمَّا رحل عنه هذا الإنسان، صار رحيل الأول عن القيمة رحيلين، لا رحيلاً واحداً.
من لا يأسف على رحيلكَ، هو الراحل، وهو الخاسر.
فإذا تركتَ قوماً، كان بإمكانهم أن يمنعوا رحيلكَ، فاعلم أنهم هم الذين رحلوا، باعتبار أن الراحل هو المتضرر، فالضرر برحيلكَ لاحِقٌ بهم، لا بك أنت.
قيل: وبيت أبي الطيب المتنبي، مأخوذ من قول أبي تمَّام:
وما القَفْرُ بالبيدِ القواء بل التي * نَبَتْ بي وفيها ساكِنوها هي القَفْرُ
قال البرقوقي، رحمه الله، وأشهد بالله أنه صدق:
وأين هذا من ذاك؟!
(26) والهَمُّيَخْتَرِمُالجَسِيمَنَحَافَةً * ويُشِيبُنَاصِيَةَالصَّبِيِّويُهْرِمُإنالهَمَّينتقصالرجلالجسيم،ويقتطعهشيئاًفشيئاً.
الهَمُّ: الحزنُوالقلقُ.
قالابْنُالسِّكِّيتِ: الهَمُّمِنَالحُزْن،والهَمُّمَصْدَرُ،هَمَّالشَّحْمَيَهُمُّهإِذاأَذابَه.
يخترم: يهلكويقتطع.
والجسيم: صاحبالجسمالضخم.
والنحافة: الهزال.
الناصية: مقدمالرأس.
ويهرم: يجعلالصبيهرماً. الهرم: الضعفوالخوار.
المعنى: إنالهَّمَمعإنهداخِلي،إلاأنآثارهتبدوعلىظاهرالجسم،فهيتهلكالجسدالضخم،وتُحَوِّلُهُإلىالهزالوالنحافة،وتجعلالصبيشيخاًيظهرالشيبعلىشعره.
ومنهقولأبينُواس:
وماإِنشبتُمنكِبرٍولكن * لقيتُمنالحوادثماأشابا