لا زال في بقايا ذاكرتي وأنا صبيٌ يافع، أن زعيماً لدولة ممتلئة بالصخب السياسي والثقافي والاجتماعي، رغم صغر مساحتها، هي الكويت، خرج في التلفاز وقد كانت آثار وعثاء الأزمة تبدو على محياه، ليتحدث عن محاولة اغتيال تمت له·
كان تمييزي غضاً، وكان مصطلح الاغتيال بالنسبة لي فتحاً جديداً من فتوحات اللغة والمعرفة، فكيف بالاغتيال السياسي، وخصوصاً وذاكرتي الغضةُ، هذه، لا تعرف مما تعي للاغتيالات حضوراً فيما وعيته من عمري في منطقتي·
اغتيال؟!
لماذا يغتالُ أحدٌ أحدا؟!
ولماذا يختارون زعيم البلاد؟!
أليست الكويت تمور بالتعددية؟!
أي فم كمم فيها؟! لينطق بالاغتيال؟!
أليست تنعم برخاء اقتصادي؟!
أي بطن نام فيها جائعاً ليشبع بمقتل من يعانون التخمة؟! قلت لكم إنني كنت صغيراً، وللصغير منطقٌ يخلو من التعقيدات، وليتنا نكون صغارا!
كانت الصورة النمطية لجابر الأحمد الصباح حاكم الكويت وأميرها، أنه يظهر في كل لقطاته المصورة في الصحف والمجلات أنيقاً مبتسماً ابتسامة صادقة، تدل على قلب أبيض وصفاء نفس، وظهور جابر الأحمد الصباح على شاشة التلفاز ليتحدث عن محاولة الاغتيال، فالرجل خرج من الموت حياً بقدرة الله··· وأقلقت الصورة الجديدة الصورة النمطية في ذهني!
بعد فترة، أصدر جابر الأحمد الصباح عفواً كريماً عن الذين شاركوا في محاولة اغتياله!
ظلت أسئلتي حائرة مرتبكة تكسوها البساطة والقلق! أي نفس هذه التي تعفو عمن أراد بها سوءاً؟! وأي سوء هو، إنها إرادة قتل، وإنهاء حياة، وإلغاء وجود، وهتك أنفاس، وأنفاس من يحبون!
علمت بعدها أن الأمارة الحقيقية ليست سوى العفو·
المشهد الثاني الذي لا يغادر ذاكرتي إطلاقا لجابر الأحمد الصباح، كان يوم أن ألقى كلمته على المنبر الدولي في الأمم المتحدة في نيويورك إثر الغزو العراقي للكويت· بكى جابر خلال خطابه، وأبكى من سمعه· بكاء الرجال، ليس سهلاً· بكاء الأوطان ليس سهلاً· ووقف جميع الحضور احتراماً لمحبته لوطنه، واحتفلوا بوطنية جابر بفاصل طويل من التصفيق·
بالأمس ودعنا جابر الأحمد الصباح· مات جابر على فراشه· لم يمت في محاولة اغتيال، ولا في محاولة احتلال، بل نجا من الأولى وعفا، ونجت بلاده من الثانية وعفت·
لا اعتراض على قضاء الله وقدره، ولكن تربص الموت بزعماء المنطقة، وإن كان طبيعياً في إطار تعاقب الأجيال، إلا أنه مؤثر ومؤلم، وسيترك أثراً في أجيال ولدت ونشأت وترعرعت على زعامات شكلت نسيجها التاريخي والاجتماعي·
بالأمس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ”رحمه الله”، ثم الملك فهد بن عبد العزيز ”رحمه الله”، والشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم ”رحمه الله”، فالشيخ جابر الأحمد ”رحمه الله” وغفر لهم جميعاً مغفرة واسعة··· والأجيال من بعدهم تكمل المسيرة، مستحضرة قول الشاعر العربي:
نبني كما كانت أوائلنا تبني
ونفعل (فوق) ما فعلوا
وتبقى دول الخليج، تتعاقب الأجيال فيها المسؤولية، بسلاسة وعذوبة، كما الماء الزلال، فيما تحاك المؤامرات، في دول ليست بالبعيدة عنا، وتفجّر السيارات بالساسة، وتخان الأنظمة التقدمية، فيما يتناقل ”الرجعيون” السياسة والاقتصاد ورغد العيش كما يفعل فريق سباقات التتابع···
جبر الله مصاب الكويت بجابر، وأعقبها في خلفه خيراً··· وأبقى على دول الخليج استقرارها···
جميع الحقوق محفوظة 2019