منذ فترة طويلة والسؤال يطرح: أيهما أولى، التغيير السياسي؟ أم التغيير الثقافي؟!
التيارات الشمولية، والماركسية تحديداً تعتبر التغيير السياسي أول الشروط والذي يأتي من خلال ثورة البروليتاريا (الطبقة الكادحة) جرياً على مقولة ماركس الشهيرة: “مهمتنا ليست تفسير العالم وإنما تغييره”!
وكذلك المقولات التي تضمنها “مانفيستو” الشيوعية، وأعني به “البيان الشيوعي” لماركس وأنجلز. ومن المؤسف أن بعض التيارات الحركية والجهادية الإسلامية، تؤمن بذات الفكرة!
أما التيارات الأخرى التي تعنى بالعمل العلمي والفكري والأكاديمي فترى أن التغيير الثقافي هو أساس أي تغيير، وأنه لا قيمة لأي تغيير سياسي ما لم يسبق بالتغيير الثقافي، والذين يرون هذا الرأي كثر لا حصر لهم.
يبدو أن السؤال هذا بدأ يتجدد طرحه لدينا في العالم العربي مع زمن الثورات. الماركسية لا ترى بأساً في الدماء التي تسفك ما دامت تأتي بالثورة وقد نجحت! الخسائر كلها تغفر ما دام المقابل متمثلاً بثورةٍ عارمةٍ تأتي على الأخضر واليابس، غير أن تيارات التغيير الفكري الذي يبدأ من التعليم والتربية والبيت والجامعة هي التي لا تغفر لأي عملٍ أن يكون أعلى من الإنسان، فلا قيمة لأي أيديولوجيا خارج سياق التقدير الإنساني للذات البشرية.
الإنسان أولاً، هكذا رأى العظماء. ومشكلة التيارات الشمولية أنها لم تنشغل بتفسير العالم بل بتغييره، ولا أدري كيف يمكن تغيير العالم من دون المرور بمرحلة التفسير والتفكير والدراسة والتحليل؟!
الثورات العربية الحالية جاءت بتياراتٍ إسلامية، بعضها إخواني، خطابه يدغدغ مشاعر البعض في التغيير والإصلاح وحماية العلمانية، وبعضها كما في ليبيا تياراتٍ إسلامية نزّاعة إلى التشدد والتطرف. هذه الثغرة في نظري سببها عدم تغليب التغيير الفكري على التغيير السياسي، ذلك أن التغيير السياسي يذهب بطاغية ويأتي بطغاة، كما فعل بصدام حسين الذي قتل، ومن ثم أينعت رؤوس “صدّامية” كثيرة، وكلي خوف على ليبيا ألا تخرج الرؤوس “القذافية”، لكن ما سبب تكرار بروز الطغاة؟ ما السبب الذي يجعل التغيير السياسي لا يحدث فرقاً؟
أرى أن السبب يعود إلى خطأ جوهري في أولوية التغيير السياسي، لأن المجتمع حين يتغير فكرياً فإنه تلقائياً من خلال وعيه يضغط على المؤسسات فيصلح المجال السياسي تبعاً للتغيير والتطور الفكري، لأن المشكلة ليست فقط في نظام سياسي فحسب، وإنما في نظام ثقافي، وهذا هو الدرس الذي تقدمه لنا الثورات.