بسلاحه الفتاك، يدخل المتطرف الإرهابي على المصلين الآمنين، مطلقاً النار في نيوزيلندا كأنه يمارس لعبة إلكترونية، مستخدماً البثّ المباشر، عبر «فيسبوك»، سافكاً دما الأبرياء…بدمٍ بارد!
هذه الصورة أرعبت العالم، لكونها تأتي ضمن موجة التطور التقنية المهولة.
نيوزيلندا، بلد مسالم، معروف بالتسامح، حقق مستوى نادراً من التعايش، ورسم نموذجاً للانسجام بين مختلف أتباع الأديان، وفي البلد ذاته، تحدث هذه المجزرة بشكل درامي دامٍ؟! الحدث بأكمله باعث، على الحزن والألم.
نَقض الحدث مستوياتٍ كثيرة من التحليلات المتعلقة بالثورة التقنية المستخدمة في موقع العملية الإرهابية. الإرهابي اليميني المتطرف تشرّب أيديولوجيا كاملة ضد الآخر المختلف عنه ديناً، وأراد تطهير الأرض منهم، وهو مُشترك أيديولوجي بين المنظمات المتطرفة في جميع أنحاء العالم، من جهة، ومن جهة أخرى تؤكد أن الإرهاب والتطرف والعنف لا وجه له، ولا دين، ولا جنسية.
لا يمكننا الحكم على التقنية بالخير والشر بشكلٍ محض، وإنما يدور الحكم مع شكل الاستخدام وغاياته.
وكان طبيعياً أن أثيرت ضجّة كبيرة حول علاقة إدمان الألعاب الإلكترونية بالأعمال الإرهابية، أو بالانتحار العدمي.
لقد احتلت التكنولوجيا اليوم مكانتها في حياة الناس، لدرجة إيمانهم أن لا حياة من دونها، حتى أغنتهم التقنية بشكلٍ مرضي حد الإدمان، عن التواصل مع البشر.
هنري كسينجر، دبلوماسي عاصر الحرب العالمية الثانية، والانتقال السريع من عصور الآلات البسيطة، إلى ثورة الأجهزة الذكية، يقول: «تكنولوجيا الإنترنت، سبقت الاستراتيجية والعقيدة، أقله الآن، ففي الحقبة الحالية، ثمة قدرات لا تفسيرات، بل ولا أشكال فهم مشتركة لها بعد، قليلة هي الحدود بين أولئك الذين يستخدمونها لتحديد ضوابط، إما معلنةً أو مضمرة، حين يكون أفراد ذوو انتماءات ضبابية قادرين على المبادرة إلى حركات تضاعف من الطموح والنزعة الاقتحامية من شأن إطار ناظم لبيئة معلومات عالمية، أن يكون ضرورياً، قد لا يجاري التكنولوجيا نفسها، غير أن من شأنه عملية تحديده والوعي بعواقبه».
التكنولوجيا هي الوسيط الفاعل، المستخدم للأعمال العنيفة، سواء من خلال الألعاب الجارحة، أو التسهيلات المتاحة، لما يعرف بحرية التعبير، بمعناها العاطفي، ويمكن إيجاد تشريعات تضبط هذا الانفلات، وتعيد رسم قواعد الاستخدام بما يضمن عدم الارتداد البشع على حياة البشر، وذلك ضمن عمل قانوني، مؤسسي، دولي، يمكنه الحد من الفوضى التقنية المتاحة بشكلٍ عشوائي، للمنظمات المتطرفة بدعوى حق التعبير، أو الإدلاء بالرأي، حينها يتحول القتل، إلى رأي على تطبيقٍ ما، كما حدث في مجزرة نيوزيلندا!
يسأل الصحافي توماس فريدمان، في كتابه: «شكراً لأنك تأخرت»: «هل هناك قوة تحكم الفضاء الإلكتروني». وهو عنوان الفصل الحادي عشر. يجيب المؤلف، بـ:«لا… ولكن يجب أن تكون هناك، ولن يحدث هذا إلا إذا استطعنا إحضارها من خلال تصرفاتنا نحن، تختفي القوة بهذا الكون الذي يتمتع بمثل هذه الحرية، لأن الطريقة الوحيدة التي تجعلها ظاهرة في العالم ظهوراً جلياً تتمثل بقيامنا جميعاً باختيار الورع والأخلاق الحميدة، في بيئة نتمتع فيها بالحرية… كتب ليون ويسلتير في مجلة ذا نيويورك تايمز في 11 يناير 2015:«يستخدم الإنسان كل تقنيةٍ قبل أن يفهمها جيداً، فدائماً ما تكون هناك فجوة بين الابتكار والإلمام بتبعاته».
العمل الإرهابي، بُث تقنياً بشكل صدم العالم، فيما تنفيذه وقع عبر السلاح، والدافع إليه جاء من الفكر. أضلاع ثلاثة لهذه الكارثة. الجانب القانوني، يمكنه لجم التقنية عن الاستخدام الدموي. والسلاح يبدأ من تمشيط المنظمات المتطرفة، في كل الديانات. أما الأيديولوجيا المتطرفة، ذات النزعة الاصطفائية، فترى في الآخر، الشر المحض، وأنه من الضروري اقتلاعه واجتثاثه.
خطران عظيمان، إنْ لم يتنبه لهما العالم الغربي، فسوف يدفع الثمن غالياً بسببهما، من خلال دوله، وباعتباره جزءاً من المكون البشري. أولهما: استخدام التقنية بلا خطام ولا زمام. وثانيهما: الحرية، غير المنضبطة التي أجزم أن مرتكب مجزرة نيوزيلندا، يظن أنه بقتله الوحشي والإرهابي، كان يمارس حريته!
جميع الحقوق محفوظة 2019