دخلتُ على صديقٍ في بيته قرب مترو دبي، أخبرني أن “الغرشة” ونقصد بها “الإناء” الذي يشرب به الماء أو اللبن قد مرّ عليه أكثر من خمسين سنة، وأنه هدية زواج أمه، تأملت به وإذا به إناء عادي مثل أي إناء لكن قيمته التي جعلت عيني صاحبي تتهللان تكمن في تاريخ الإناء، لا شكله، قلّبته ونظرت إليه تأملتُ كم أن هذه “الغرشة” تكبرني بعقد ونيف، لم أعرف إلا شيئاً واحداً من تلك القصة، وهي أن الأشياء التي يمرّ عليها التاريخ تتحول إلى شيء لا يباع ولا يشترى، وهذا ما نسميه عادةً بـ”الآثار”! كتبتُ في 9 نوفمبر 2009 على هذه الصفحات مقالاً بعنوان:”الآثار تنصف تاريخ الخليج”، تحدثتُ فيه عن ضرورة إعادة الاعتبار للآثار، وكيف أن الأثر هو تاريخ أشخاص رحلوا عبر الزمن أو رحل بهم الزمن أو رحّلهم الزمن إلى حفرة الموت. الجبال، الوديان، الحجارة، الأنهار، النقوش، والأبواب، كلها تأخذ قيمتها من كونها تاريخاً، من كونها المعطى اللامع بسبب المدة الزمنية التي تعصف بالأثر بحركة التاريخ. فرحت واستمتعت بأن أملي قد تحقق، فقد قرأتُ في الإعلام عن افتتاح الإمارات أول مكان أثري مسيحي فيها. المعْلم عبارة عن دير للكنيسة السريانية الشرقية يعود للقرن السابع الميلادي والموقع اكتشف عام 1992 على جزيرة صير بني ياس قبالة الشواطئ الغربية لإمارة أبوظبي، ويقوم بإدارته مشروع جزر الصحراء التابع لـ”شركة التطوير والاستثمار السياحي”، والذي يهدف لجعل الجزيرة البالغة مساحتها 87 كيلومترا مربعاً وجهة للسياحة البيئية والثقافية. ويا له من مشروع يغري للزيارة والاطلاع. “أبوظبي” خاصةً والإمارات بعامة تضم تاريخ آثار لمختلف الأديان والمذاهب، بل وتاريخ عظيم يستحق أن يكون محل استثمار من قبل المؤسسات الحكومية والأهلية. التاريخ العريق أشار إليه بوضوح رئيس مجلس إدارة شركة التطوير والاستثمار السياحي معالي الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان حين قال:”إننا فخورون بتراثنا العريق، وهذا ما دفعنا إلى تركيز جهودنا على تأسيس وجهة سياحية متكاملة تمكن الزوار من التمتع بالطبيعة والحياة البرية في جزيرة صير بني ياس مع ضمان حماية المعالم التاريخية والأثرية والحفاظ عليها”. نجحت الإمارات العربية المتحدة بعظمة التنمية التي عاشتها، وهي تنمية نموذجية صارت حديث العالم، واليوم تشق طريقها نحو أرشفة التاريخ من خلال الآثار. نقلة نوعية أن تهتم الحكومة الإماراتية ممثلةً بمؤسسات السياحة بتاريخ طويل عريض، حتى ولو كان تأريخاً لغير المسلمين، من مسيحيين أو غيرهم. وهذا ما فاجأنا به الخبر الجميل الذي قرأناه أخيراً. اللافت أن علماء الآثار يعتقدون أن جزيرة صير بني ياس ظلت مأهولة بالسكان على مدى أكثر من 7500 عام وعثر فيها حتى الآن على أكثر من 36 موقعا أثرياً. إنها جزيرة احتضنت التاريخ، وكلما مررتُ أمام لوحاتها وأنا ذاهب إلى بيتي أرى أنني أمام تاريخ، وأن هذا التاريخ لا بدّ أن يخدم ويتاح لملايين الزوار الذين يتجولون في الإمارات كل عام. هذا البلد الذي عرفناه وخبرناه، واحتضننا بكل حميمية وأمن ورعاية، من الحكام إلى الشعب. إن الآثار تاريخ للراحلين من الناس، وتوثيق للجيل القادم، ليرى ماذا صنع الجيل السابق في الأرض، كيف عاش وكيف استطاع أن يواجه الصعوبات… هذا هو التراث، وتلك هي عظمة التوثيق!
جميع الحقوق محفوظة 2019