بقيت نظرية الحكم في الإسلام مثار جدل كبير خلال القرن المنصرم. كانت الخلافة هي النظام الحاكم للمسلمين، وبسقوط الخلافة العثمانية في العام 1924 تحولت هذه النظرية إلى مثار جدل عريض بين النخب بمختلف أطيافها. شكل نقاش مفهوم “الخلافة” بوصفها نظرية الحكم التي سادت بداية النقاش حول معنى الحكم الإسلامي. بدأ الفقهاء في نبش التراث الإسلامي باحثين عن محددات الحكم في القرآن والسنة النبوية، بعضهم ضخّم مسألة الحكم في الآيات القرآنية وجعلها حاكمة مهيمنة، والبعض الآخر فسّر آيات الحكم في القرآن على أنها مخصصة للحديث عن “القضاء”. دار الجدل داخل المؤسسات الدينية في البداية. كانت هناك رؤية تتبلور ذات بعد مدني في الحكم، وكان قاضي محكمة المنصورة الشرعية علي عبد الرازق أول من يتبنى خطاباً مدنياً للحكم في البلاد الإسلامية، آتياً ليزحزح مفهوم الخلافة، طارحاً الحكومة المدنية كبديل، ليثير بحديثه هذا الكثير من الجدل في أبريل 1925 بعد أن أصدر كتابه: “الإسلام وأصول الحكم”، الذي حاول فيه أن يثبت: “أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الإسلام وأن هذه المسألة دنيوية سياسية أكثر من كونها مسألة دينية وأنها مع مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان في القرآن، ولا في الأحاديث النبوية في كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه”، وذهب في كتابه إلى القول بأن “التاريخ يبين أن الخلافة كانت نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد”. وفور صدوره اطلع محمد رشيد رضا على الكتاب وكتب مقالة عنه في الصفحة الأولى بجريدة (اللواء المصري والأخبار) يوم 8 يونيو 1925 ألمح فيها إلى خطورة الدعوة التي يتناولها الكتاب، وإلى خطورة أن يأتي بهذه البدعة قاض شرعي وعالم أزهري، فقال: “أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه إنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق لجماعته وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية من أحكام شخصية وسياسية ومدنية وجنائية وتجهيل للمسلمين كافة، وإننا سنرد على جميع أبوابه وفصوله ردّا مفصلاً، ولكننا لا نقول في شخص صاحبه شيئاً، فحسابه على الله تعالى، وإنما نقول إنه لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه، فإن هذا المؤلف الجديد رجل منهم فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو وأنصاره إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه”. بلغت ذروة انتصار رشيد رضا لمفهوم الخلافة قيامه بتأليف كتاب حمل اسم “الخلافة”. وكانت آراء عبد الرازق سبباً في محاكمته، وهو بعد في الثلاثين من عمره. لكن كتابه تحول إلى مرجع رئيسي في دراسة أصول الحكم في الإسلام رغم كل الملاحظات المنهجية، التي يمكن أن يصدرها ضده أي قارئ. تصفحت قبل أيام هذا الكتاب تأملتُ أننا وبعد مرور أكثر من خمسة وثمانين سنة على هذا المؤلف الدسم، كم كان حرياً بنا أن نتأمل بعد نظر العالم القاضي علي عبد الرازق، الذي يصنّف من قبل الأصوليين على أنه شيخ العلمانيين إلى اليوم! في ص45 يقول: “إن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة. ولا على الذين يلقبهم الناس خلفاء. والواقع أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك. فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا”. إنها الضربة الموجعة التي سددها العالم الجليل ضد بذور الحكم الإسلامي الذي ستتنازعه التأويلات، لكأنه تنبأ بأن دخول الشريعة في الحكم وتدخل الخلافة كرؤية لمصير المسلمين ستسبب متاعب اجتماعية تحول بين الناس وبين عيش حياتهم بشكل سليم. فهل نعود إلى هذا الكتاب لقراءته والنهل من رؤاه خاصةً، وأنه ينطلق في كل رؤاه من الكتاب والسنة الصحيحة وصميم الفقه. كم ظلمناك يا علي عبدالرازق، وحاكمناك على رؤية اكتشفنا بعد مرور قرابة القرن على كتابتها أنها من أعظم الرؤى التي تفسح للمدنية طريقها من خلال مبادئ ومنطلقات شرعية.
جميع الحقوق محفوظة 2019