بعد انقطاعٍ جبري طويل، يعود سعد الحريري إلى بيروت، بخطابٍ في ساحة «البيال» بحضور قادة الرابع عشر من آذار، كان بحد ذاته حدثاً سياسياً حرك المياه الراكدة، وطمأن الأنصار، وكانت الكلمات مثل البلسم على الجراح التي يعاني منها البلد بسبب المماطلة في تعطيل انتخاب رئيس، وعجز اقتصادي، وانهيار خدماتي، من تعطل الكهرباء، وحتى أزمة النفايات، التي شكلت صدمة للمتابعين للشأن اللبناني.
الكلمة التي ألقاها الرئيس الحريري أعادت إلى الذاكرة رفيق الحريري، شهيد لبنان الكبير، والمعمّر للبنان الحديث، بكلماته وأقواله ووصاياه، وبالقيم التي غرسها وأبرزها لبنان المستقل مواجهاً بذلك الوصاية السورية، وواضعاً الحدّ الحاسم لها.
مما لا شك فيه، أن وجود سعد الحريري بلبنان يجعل التوازن السياسي مختلفاً، ذلك أن الأنصار يشعرون بالطمأنينة لوجود رئيسهم، والخصوم سيعيدون ترتيب أوراقهم تبعاً لمروحة الأعمال التي يقوم بها داخل لبنان، وتخدم عودة الرئيس إلى لبنان القيم والأسس التي تحدّث عنها في الكلمة، وأبرزها تحقيق مفهوم الدولة المدنية.
والبعد عن الأنماط والسلوكيات الميليشيوية، وعدم التدخل في دماء الأبرياء في حروبهم الداخلية على عكس الذي يمارسه حزب الله على الأرض في سوريا والعراق واليمن، والبعد عن ممارسات التعطيل للمجلس النيابي وللاستحقاق الانتخابي.
التحدّي الذي يُعاش في لبنان ليس سهلاً، فجبهة النصرة تسيطر على مناطق منه، وحزب الله يخوض حرباً شرسة دموية في سوريا، والخلايا النائمة من القاعدة وداعش وكتائب عبدالله عزام، كلها ستكون كابوساً أمام الأجهزة الأمنية والمجتمع اللبناني.
ذلك أن الحدود المنفلتة والاصطفاف السياسي كانا سبباً في جاذبية لبنان لطاقاتٍ عديدةٍ من الجماعات الإرهابية، هذا فضلاً عن الاستفزاز الذي يمثّله وزراء يقومون بأدوارٍ ليست لبنانية بقدر ما هي إيرانية، بما يجعلهم وزراء في حزب الله لا وزراء حكومةٍ لبلدٍ يضم أكثر من خمسة وعشرين طائفة ومذهباً.
الخطاب الذي أطلقه الحريري يمثّل الاعتدال، لم يتحدّث لأنصاره السنّة، ولا للبنانيين معيّنين، ولم يتفوّه بعبارةٍ مذهبية، بل توجّه بحديثه إلى اللبنانيين بصفتهم الإنسانية وبهويّتهم المدنية، لهذا كانت ردّة فعل الأحزاب الشموليّة في صحفها باليوم التالي غاضبة، فجريدة السفير كتبت: «إن خطاب الحريري أقفل باب «بيت الوسط» ليس فقط على ترشيح عون.
بل حتى على فرصة الحوار معه بهذا الصدد، معيداً الكرة إلى ملعب «حزب الله» بعدما غادرته في أعقاب الخطاب الأخير للأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله، وبالتالي فإن مواقف الحريري أعادت تثبيت معطيات الأزمة، ما يدفع إلى استبعاد حصول أي خرق في المأزق الرئاسي قريباً».
تتناسى القوى المناوئة كل الجهود التي بُذلت من قبل الحريري بغية حلّ الأزمة الرئاسية منذ ترشيحه لجعجع ومن ثم البدء بالحديث مع ميشيل عون كما اصطحبه معه في طائرته الخاصة، وصولاً إلى ترشيحه لسليمان فرنجية، والسبل كلها مسدودة لأن حزب الله يريد أن يركّع الأحزاب الأخرى ويخرسها، أو يريد ما وصفه جنبلاط أن يكون في لبنان مجلس تشخيص لمصلحة النظام على الطريقة الإيرانية المعروفة.
الأكيد أن عودة سعد في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق أسعدت أنصار الدولة والمدنيّة، وأزعجت التيارات الشمولية والراديكالية الثورية. وفرق بين أنصار دولةٍ صالحة جامعة تحترم الدستور وقيم المدنيّة والديمقراطية، وبين الفاعلين الميليشويين على الأرض العربية الملوثة أيديهم بدماء الأبرياء.