أعرف جيداً هذه الساعة التي يتذكر فيها كل منا ساعة يده، أقصد هؤلاء الذين لا يدخلون أيديهم في جيوبهم لينظروا إلى شاشة النقال حين يسألهم عابر عن الوقت، بل يرفعون اليد إلى مستوى النظر قبل أن يجيبوا عن السائل بدقة لا تحصل كثيراً مع سؤال عابر من غريب مستعجل.
لست مهووساً بالساعات، لكني ما زلت وفياً لساعة اليد، بقية من عادة، فيما يتفاوت كثير من الرجال والنساء في ارتداء الساعة، بقية من ذائقة، ويتفاوت المهتمون بالتفاصيل الدقيقة، إذ يندر أن تقابل رجل أعمال جاوز الخمسين من دون أن تنتبه إلى ساعة اليد التي يزين بها معصمه!
هل ورثها؟! فهي محدودة قد لا تراها مرة أخرى، أم يريد أن يقول من خلال الأرقام التي لا تضيء إلا حين ينظر إليها – هو فقط – إنه بخيل؛ يرفض التشارك والعطاء حتى قبل بدء اللقاء، أم هو ثلاثيني طموح من جيل التقنية، بقدرته أن يدير سطح المكتب من ساعة على معصم اليد؟!
وربما وجدت من يرتدي ساعة تساوي راتبه لخمسة أشهر، تسابقاً على نمط استهلاكي، أو قناعة منه بأن أفضل ما يقدم به نفسه هو ما يرتديه!
لكن للأسف ليست هذه هي الساعة التي أقصد. قبل أسبوعين، تكرر الحوار الذي سمعته مراراً عن الموضوع ذاته في التاريخ ذاته، لكن في قارات مختلفة، ما بين ممتعض غاضب من تحكم الدولة حتى في ساعة يد المواطن، وصولاً إلى ناشط بيئي مبتهج بكمية الطاقة التي يمكن توفيرها حين يجبر الناس على الانتباه إلى معدلات صرف الطاقة المتزايدة، ولو أدى ذلك إلى تدخل القانون في إعادة توزيع طاقة الشمس على ساعات النهار.
كنت في لندن حين اختصر عليّ صديق أردني النقاش بقوله: تعرف شحّ الموارد لدينا في الأردن، منذ الثمانينات ونحن نعتمد التوقيت الصيفي في الأردن كي نتعايش مع حقيقة كوننا دولة غير نفطية؛ وفّرنا في عام 2010 وحده أكثر من 45 مليون دولار فقط من فرق الساعة التي أزعجنا بها الناس هاهنا. ضحكت من انزعاجه ونظرت لساعة يدي مبتسماً وودعته.
«النوم المبكر والاستيقاظ المبكر يجعل الرجل صحيحاً وغنياً وحكيماً»، ليست تلك أشهر مقولات بنيامين فرانكلين، حين يتعلق الوقت بتقديم الساعة أو تأخيرها، لكن الروايات تتفق جميعاً على أن موضوع تقديم الوقت ساعة واحدة في الصيف كان مؤرقاً جداً للرجل.
فرانكلين هو صاحب الكرش الأنيق على الدولار الأميركي، ولعل مصدر الأناقة هنا هي قيمة الدولار لا كرش صاحبنا، وقد أقام فترة في باريس، فكتب رسالة باسم مجهول، يقترح فيها على الفرنسيين الاقتصادَ في استعمال الشموع ليلاً، بالاستيقاظ باكراً للاستفادة من ضوء الشمس صباحاً.
شخصياً، لا أستطيع تكذيب القصة، ليس استناداً إلى أساس علمي، بل لعلمي بأن فرانكلين اعتاد في بدايات عمره الكتابة باسم مستعار في الصحافة الأميركية، قبل انتقاله للعمل دبلوماسياً أميركياً لتحسين العلاقات مع باريس.
الطريف أن اسمه المستعار في أميركا، الذي كان يمهر به مقالاته، كان «فاعل خير صامت»، قبل أن يقع ضحية لسخرية الفرنسيين من جدية الأميركي في التوفير، فقد انهالت النكت الساخرة من النصيحة، بعدة حلول لا يجمع بينها إلا عدم الجدية في التلقي، فمن تقنين استخدام الشموع، مروراً بسن ضريبة على من يقفل نافذته مانعاً ضوء الشمس من النفاد، إلى إطلاق المدافع عند الشروق، أو قرع أجراس الكنائس لإيقاظ الكسالى المسرفين.
وبالعودة إلى ربط فرانكلين النجاح بالاستيقاظ المبكر، يقول أحد صناع الأمل والنجاح في العالم العربي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «في كل صباح، لديك خياران: إما الاستمرار في النوم لمتابعة أحلامك، أو الاستيقاظ والسعي لتحقيق أحلامك»، ولذلك أظن أن الإماراتيين، من عِشرة نحو عقدين معهم، يعتبرون من صفات الرجل الناجح «أن ينش مبكراً»؛ والنشة بالدارجة الإماراتية هي: الاستيقاظ.
الأكثر طرافة أن ألمانيا وحلفاءها هم أول من اعتمد التوقيت الصيفي، بدءاً من 16 أبريل (نيسان) 1916. وكان القرار اقتصادياً بحتاً، كما قال صديقنا الأردني في لندن، فلم يحتج التغيير الذي اقترحه أشهر مشرع ورئيس أميركي – لاحقاً – وسخر منه أجداد الثورة الفرنسية، إلا حاجة ألمانيا لحفظ الفحم في أثناء الحرب العالمية الأولى!
لحقت بريطانيا بالألمان، لتفرض الفكرة على المستعمرات البريطانية، ومن ثم اعتمد التوقيت الصيفي في الولايات المتحدة صيف 1918، ومن يومها والتوقيت الصيفي – لا الشتوي، لأنه عودة إلى الحالة الطبيعية وإلى التوقيت العالمي – يعتبر خطة اقتصادية ونظاماً عبقرياً للتقليل من فاتورة الطاقة، ناهيك عن أثره الإيجابي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً للدول غير النفطية.
ولست أبالغ حين أقول إن قراراً مثل تقديم كل واحد منا ساعة يده، ساعة واحدة فقط، قد نتج عنه نقاش ساخن امتد لسنين، ولا يزال مستمراً مثلاً في الاتحاد الأوروبي، فقد دافع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قبل شهر عن فكرة «إلغاء تغيير التوقيت خلال فصلي الشتاء والصيف، مع إمكانية ترك الحرية لكل بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي في اختيار سياسته الخاصة في هذا المجال».
ثمان وثمانون دولة حول العالم اليوم يقدم مواطنوها ساعاتهم ساعة واحدة في كل عام لأسباب اقتصادية، وأحياناً لقناعات بيئية. الغريب أن هذا التغيير – الذي يبدو مرتبطاً بالدول الصناعية وغير النفطية – يخلو من توقيع اليابانيين، رغم أن واحدة من أهم الدراسات أجريت عام 2004 في اليابان، حين توصل الباحثون فيها إلى أن الأثر المباشر لتطبيق التوقيت الصيفي يعادل حفظ الطاقة التي قد تستهلك إذا ما شاهد جميع المواطنين التلفاز يومياً لـ66 يوماً!
الأكثر دهشة أن حوار التوقيت الصيفي يصبح جاداً جداً حين نعرف أنه حق سيادي تماماً، وسيادي بشكل يسمح أحياناً للأقاليم بتحديد ذلك، فجنوب البرازيل مختلف مثلاً عن شماله، ولا بد من التذكير بأن قارتي أفريقيا وآسيا – خصوصاً المناطق التي يقطعها خط الاستواء – تنعم باستقرار في عقارب ساعات مواطنيها، مما يريحهم جداً من السهر والنقاش عن هذه الساعة التي توفر الملايين، وتسهر الساسة والمثقفين وأصدقاءنا المهتمين جداً بالتغيير المناخي.
قدموا ساعاتكم أو آخروها، الأهم أن تستمتعوا بوقتكم، وتوفروا من استهلاك الطاقة، مهما كان سعر ساعة اليد التي ترتدون.
جميع الحقوق محفوظة 2019