لعلَّ أشهر كتب التراجم، في تاريخ الإسلام، موسوعة التراجم الشهيرة، الموسومة بـ«سير أعلام النبلاء»، لمؤلفها العلامة شمس الدين الذهبي (673 – 748 هـ)، التي أصبحت مرجعاً، لكل أعلام ما قبل تدوين الكتاب، الذي أنهى مؤلفه كتابته، نحو عام (783 هـ).
وللذهبي، رحمه الله، في تراجمه، معيار ذهبٍ، يُطابق لقبه، ونور معرفة، مثل ضوء شمسٍ، يحاكي اسمه.
ورغم تشَرُّبِه فنوناً شتى، إلا أنَّ له القدح المعلى في التراجم، بمنهج دقيق سار عليه، ضمَّنه عدم قبول كلام الأقران في بعضهم بعضاً، فالمنافسة تثيرُ الشحناء، وتؤججُ البغضاء، وذلك كله، مظنة راجحة، لغياب الإنصاف. لخَّص ذلك كلَّه، في جملته المنصفة، اللطيفة: «كلامُ الأقران، يُطوى، ولا يُروى»، وتجنب قدح الأقران ببعضهم، من ضروب النُبْلِ، مارسها منهجاً، نبيلٌ يدوِّنُ سيَر النبلاء.
الصديق خالد الجريوي، رجل فاضلُ الطباعِ، كريمُ السجايا، يُؤمن بأنَّ الخصال الحميدة، تنتشر بالعدوى الإيجابية، فأسَّسَ في «تويتر»، وسمَ «#قائمة_النبلاء»، يُوردُ فيه، أفعال الإحسانِ، وصَنَائِع المعروفِ، وصُنّاع السخاءِ، وناشري الفضائل.
وإن كان مدارَ ما سبقَ من حديث، ونواته هو النُّبلُ، فقد توقفتُ عند هذا النُبل، مُتفَكرِاً في مناحيه، باحثاً بعض معانيه، مُفتّشاً شيئاً من آثارهِ، مُتَتبِعاً قليلاً من أخبارِه، فوجدتُ، في «مختار الصحاح»: «النُّبْل»؛ النَّبَالَة وَالْفَضْلُ.
ومن أوسع من استفاض في الحديث عن النُبْلِ، الجاحظ، في «الرسائل الأدبية»، ومن فحص ما خطه الرجل، أيقن أنه تعاطى مع النُبْلِ، بشَغَفِ المُحبين، فمن جميل قوله: «اعلم أنَّك متى لم تأخُذ للنُّبلِ أُهبته، ولم تُقِم لَهُ أداته، وتأتِه من وجهِهِ، وتَقُم بِحَقِهِ، كنتَ مع العناء مبغضاً، ومع التكَلُف مُستَصلِفاً. ومن تَبَغَّضَ، فقد استهدِفَ للشّتَام، وتَصدّى للمَلام».
والمقصدُ، أن سُموَ النُّبلِ، يجعله في مكانٍ عَلِي ومكانة رفيعة، فلا يليقُ بنوالِه، ولا يستحِقُ وصلهُ ووِصاله، من لا يبذلُ وافرَ الجهدِ في تحصيله، عاملاً باشتراطاته، آتياً بمقتضياته.
النُّبلُ – أيها السادة الكرام – كالنجاح، غاية مقصودة، ووِجهة منشودة، وهي أرقى من أن ينالَها كسولٌ، وأرفع من أن يستمتع بِحُلوِ طعمها بليد. وهذا لُبُّ، ما عناه، عمنا، أبو الطيب المتنبي، في بيته، النبيل:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبتْ في مرادِها الأجسامُ
فالنبيل كريمُ نَفْسٍ، يعلم أن حصول مبتغاهُ، متعذرٌ، دون جهد وجد، وتحقق مُنَاه، مستبعدٌ، بلا بذلٍ وتقديمٍ؛ مالاً، ووقتاً، ورغبة، وإصراراً، وإقبالاً… تبسماً وترسماً… فلا عجب أن يقول الشاعر، المتقدم، بيتَه النّفيس:
لولا المشقّة سادَ النّاسُ كلُّهمُ
الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتّال ُ
لو أن النُّبلَ في متناول اليد، يُلتقط بيسر، ويشرف به من لا يكلف في سبيله، ويتعب لشرف أن يوصف به، لصار الخلق كلهم نبلاء… ولكن النبالة تقتضي الكرم، والكرم عزيزٌ على من لم يتطبع به، كما أنَّها تستلزم الشجاعة، والشجاع المقدام مُعرّض للمخاطر، والتحديات لا تروق من يُقدِم الراحة.
أعودُ للجاحظ، الذي يبيِّن صفات النبلاء، قائلاً: «ولا يكون المرء نبيلاً، حتى يكون نبيلَ الرّأي، نبيل اللّفظ، نبيل العقل، نبيل الخُلُق، نبيل المنظر، بعيد المذهب في التنزّه، طاهر الثّوب من الفحش». فانتقاء جمل حديثك، واختيار آرائك في الناس، وبعدك عن السفاسف. وحسن مظهرك، من النُّبلِ.
سألنا عمنا الجاحظ: هل ينفع تَصَنُّعُ النُّبلِ؟ فأجاب: «النبيل لا يتنبّل، كما أنّ الفصيحَ لا يتفصّح، لأنّ النّبيلَ يكفيه نبلُه عن التنبّل، والفصيح تغنيه فصاحته عن التفصُّح. ولم يتزيّد أحد قطّ إلّا لنقص يجده في نفسه، ولا تطاول متطاول إلّا لِوهَنٍ قد أحسّ به في قوته»، مؤكِّداً أن من «صفات النُّبْل: المروءة، وبُعْد الهمَّة، وبهاء المنظر، وجَزَالة اللَّفظ، والمقامات الكريمة».
ولا عجب فيما قاله الجاحظ؛ لأنَّ العرب لم تخالفه الرأي، ولكنهم زادوا عليه وأضافوا إليه.
سُئل معاوية بن أبي سفيان: ما النُّبْل؟ فأجاب: «مؤاخاة الأَكْفَاء، ومداجَاة الأعداء»، فربط النُّبل والشجاعة، وفي موضع آخر، أجاب عن السؤال ذاته، قائلاً: «الحِلْم عند الغضب، والعفو عند القدرة».
أما يحيى بن خالد (ت 190 هـ)، أشهر رجال عصره علماً وأدباً وفضلاً وجوداً، فقال: «أمارة النُّبْل: أن تتواضعَ لمن دونك، وتنصفَ من هو مثلك، وتستوفي على من هو فوقك».
واختصر الإمام الغزالي (ت 505 هـ)، تعريف النُّبل، فقال: «سرور النَّفس بالأفعال العظام».
وأجمع تعريفات النبيل، لا تنسب لمعروف، وفيها، «النَّبِيل: مجمع لجميع الفضائل الخُلقيَّة والجسميَّة والاجتماعيَّة». والعجيب أن موانع النُّبْل تكاد تطابق موانع كل فضيلة، فمن موانعه: التعالي والتكبر، وسوء الخُلُقِ، وظُلْمُ الخَلْقِ، وسوء التدبير، وانعدام التدبُّر، والبُخل بالمال والجاه والبذل، وعدم مقابلة الناس بطلاقة، وشُح التبسم.
يقول الجاحظ: «وإن كان النُّبْل بالتنَبُّل، واستحقاق العِظَم بالتعظُّم، وبقلَّة النَّدم والاعتذار، وبالتهاون بالإقرار، فكلُّ من كان أقلَّ حياءً، وأتمَّ قِحة، وأشدَّ تَصَلُّفاً، وأضعف عُدَّة، أحقُّ بالنُّبْل وأولى بالعُذر! وليس الذي يوجب لك الرِّفعة، أن تكون – عند نفسك دون أن يراك النَّاس – رفيعاً، وتكون في الحقيقة وضيعاً، ومتى كنت من أهل النُّبْل، لم يَضُرّك التبذُّل، ومتى لم تكن من أهله، لم ينفعك التنَبُّل، وليس النُّبْل كالرِّزق، يكون مرزوقاً الحرمان أَلْيَق به، ولا يكون نَبِيلاً السَّخافة أَشْبه به، وكلُّ شيء من أمر الدُّنْيا قد يحظى به غير أهله، كما يحظى به أهله، وما ظنُّك بشيء المروءة خصلة من خصاله، وبُعْد الهمَّة خُلَّة من خلاله، وبهاء المنظر سبب من أسبابه، وجَزَالة اللَّفظ شُعْبة من شُعَبه، والمقامات الكريمة طريق من طرقه».
ولا يجلب المال النُّبل، ولا يعينُ على النُّبْل، إلّا إذا كان صاحبه كريماً أصلاً. سبّاقاً لفعل الخير. كما لا يُشترط أن يكون المرء صاحب مالٍ، حتّى يكون نبيلاً، بل تكفيه الأخلاق الحميدة، والآراء الرشيدة، والترفّع عن سفاسف الأمور والترّهات، والدُّنوُّ من حسن الصفات والكلمات، كما قال المتنبي:
لا خيلَ عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم يسعد الحالُ
وهنا يتباين النبلاء بين العرب والغربيين، فالنبيل عند العرب متكسب للوصف بمجمع ما يحوز من فضائل، ويمارس من محاسن، فلا يرث المرء النبالة كما تُورّث العروش والأموال، ولا يُمنح لقبها بالدراهم.
النَبَالَة عند العرب، ليست طبقة اجتماعيّة، تُنال بأعطية، بل العكس صحيح؛ فمن تواضع لمن هو أدنى منه، وقارع من هو أعلى منه، وأنفق ماله، وأنهك حاله، في سبيل الغير، صار نبيلاً، واعتلى مقامه بأفعاله، أياً كان أصله، ومهما كانت طبقته.