يبدو المشي بين القوافي مختلفاً عن العدو بين السطور، لكن أديبنا الكبير الشاعر والصحفي السعودي، الأستاذ عبدالله الصيخان، أجادهما معاً، الشعر والصحافة.
الصيخان ساهم في صناعة وطنيته العميقة، تنقلُه مع والده الذي عمل في السلك العسكري، فتقلب بين مناطق السعودية الشاسعة والكبيرة، فأخرجه ذلك من ضيق المناطقية، إلى سعة الوطن الكبير المبهج، لُقِّب بـ«شاعر الصحراء والقوافي»، وهو وُلد بتبوك عام 1956، وعاصر جيل الحداثة بمخاطراتها التاريخية.
درس عبدالله الصيخان الزراعة بجامعة الملك سعود، ولم يهزمه طريق الشوك، بل اعتبره «طريق الحقل»، عنوان ديوان قصيدٍ شعري للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر.
لم تكن تلك الحقبة سمحة، وإنما فرضت سطوتها على الجميع، ارتدت الحركة الأدبية بعد صراعٍ مرير لتصعد فوضى غريبة، ولئن تمكنت الصحوة من الحداثة في جولةٍ، غير أن مبدعيها حفظوا هذه التجربة، ونشروها للأجيال اللاحقة، التي لم تعِ تفاصيل تلك المرحلة المشربة بالإفك والافتراء.
يقول الصيخان، في حوارٍ نشر على مدونته: «نحن عشنا مرحلة (التفجير الأدبي) للحداثة، التي كانت جزءاً من مرحلة التنوير التي كان يجب أن يعيشها مجتمعنا، والتي بدأها الرواد من أمثال محمد حسن عواد وغيره، أذكر أننا كنا فاعلين أكثر في المجتمع كأسماء أدبية وإبداعية، كان نشاطنا على المستوى العربي لافتاً، وهذا ما أرقهم وهم يحاولون طبعاً أن يقدموا رموزهم وشعراءهم الذين يؤيدونهم، وبالتالي آثرنا نحن أن نمنحهم الساحة كاملة، وأن نمكث في الظل قليلاً أو طويلاً».
راسل الصحف والمجلات المحلية بداية من عام 1972، وعمل بين 1976- 1980محرراً متعاوناً مع مجلة (اليمامة)، ثم سكرتيراً لتحريرها بين عامي (1981-1982)، فمديراً لتحريرها (1983- 1987)، وشغل منصب مدير تحرير مجلة (التوباد)، ثم نائب رئيس تحرير صحيفة (عكاظ).
الأستاذ الشاعر عبدالله الصيخان، الذي يشغل اليوم منصب المشرف العام على مجلة (اليمامة)، باذلاً جهوداً كبيرة لمحاولة انتشال حبيبته (اليمامة)، من وحل النسيان… سألته: عن سبب عودته لـ(اليمامة)، بحماس الشباب بعد أن انفض المولد عن الصحافة الورقية؟ فأجابني بابتسامةٍ، تعكس دماثته ولطفه، ثم قال: «لا أدري، ولكني عدتُ إليها عن عشقٍ وشوق معاً، بعد انقطاعٍ طويلٍ عنها، (اليمامة) حبي الأول فقد كنت بدأت النشر بها، منذ كنت في المرحلة الثانوية».
تجربة الصيخان الشعرية تفجرت عن دواوين مشعة، مثلت تجربته نقطةً تحوّل وتجديد، يشترك مع رفيق دربه الشاعر السعودي الراحل محمد الثبيتي، بحب الصحراء والمطر والقوافل والتضاريس، وامتداداً لهذه الرفقة، رثى الصيخان صاحبه الثبيتي، فقال:
أناديكَ
قمْ.. يا محمدْ
فإنَّ العيون التي انتظرتك طويلاً
بكت في ظلال القصيدةِ
والقيظ لف عباءته حول صدركَ
حتى ترمدْ
فقم يا محمدْ
أناديك.. قمْ
يا أمير القصيدةِ
يا أبيض القلبِ والأفْق أسودْ
أناديكَ
قم.. يا محمدْ
كأنّ فؤادك تلك الحديقةُ
حين سقيت شجيراتها بالسهرْ
ونسّقتها بالهمومْ
نازلاً من سفوح حراءْ
إلى ما وراء الجموم.
تجربة الصيخان الشعرية مرت بتحدياتٍ، تفاوت صداها لدى النقاد، معتبراً ثمة من راهن عليه شاعراً، ولم يخذله، بينهم محمد الشنطي أول من كتب عن شعره، وعبد الله نور من أوائل من تناول شاعرية عبدالله الصيخان، وله رهانه أيضاً، وشاكر النابلسي الذي كتب مبكراً مراهناً على الصيخان، ثم يضيف شاعرنا المبدع: «أعتقد أن الرهان الحقيقي أمام المبدع، هو الناس، لا النقاد»!.
أخذ شعر الصيخان صيغته الفنية، بالتزامن مع حضور النوتة الموسيقية، وتجنب أغراض شعره الأيديولوجيا، وإن حضر فيها الهم العربي، فالقصيدة بالنسبة إليه هي «الأفق».
فضّل العربية الفصحى، على تجربته العامية التي يعتبرها «ليست ذات بال»، لأن ثقافته كلها فصحى، يكتب الغزل وينقطع عنه، تثير قصيدة: «فضة تتعلم الرسم»، آراء قُرائه، ويأخذ على ناقديه ادعاءهم إكثاره من الغزل، ويقول: «لو هيئ للنقاد أن يقرأوا نتاج شعراء الثمانينيات لمثلي، ومثل (محمد) الثبيتي، و(محمد جبر) الحربي، و(علي) الدميني، و(سعد) الحميدين، لوجدوا أن أقل ما لديهم هو الغزل، لأنهم استهوتهم اهتمامات أخرى، اهتمامات التجريب بشكل عام».
تأثر شاعرنا بالموسيقى، كما الشعراء الكبار، ورثى صوت الأرض الفنان السعودي الراحل، طلال مداح (ت:2000)، بقصيدة أثيرة:
««زمان الصّمت» مرّ ولم يجبني
أيصمت صوتك الزاهي الحبيب؟
وأنت نسجته شجناً خفياً
على أرواحنا إذ نستطيب
فنسأل كيف يسرقنا ويمضي
ويبقى في القلوب له وجيب
«وترحل.. صرختي تذبل بوادي»
ونكس رأسه الصبح الكئيب
وإن مولت مالت بي نخيل
وهزت جذعها وبكى العسيب
وإن أبحرت في «أحلى الليالي»
فكل قوارب الذكرى نحيب
وإن زلت بنا خيل الأغاني
فخيلك في ملز الذوق طيب
أمن زرياب أنت قبست ضوءاً
وبوزن عودك الشادي صهيب
أخذت بذوقنا فانساب نهرٌ
ولن يبقى سوى «وطني الحبيب»».
برغم صخب التكفير والإلغاء، الذي تلقاه رواد الحداثة السعوديون، وفي مقدمهم الصيخان، شعراء، ونُقَّاد، ومهتمون، إلا أن شاعرنا الجميل بقي محافظاً على أخلاقياته مع الآخر، محدثاً القارئ، أنه بذلك يتمثل قولاً خالداً لرسول حمزتوف: «إذا أطلقت رصاص مسدسك على الماضي، فإن المستقبل سيطلق عليك مدافعه».
*سفير المملكة في الإمارات