وقد يرزق الله الرجل الصالح بطيب ذكر الناس له، حاضراً وغائباً، وإن شاءت الأقدار أن تُقبض روح الصالح في سن مبكرة، تاركاً خلفه خمسة أطفال، طفلاً وأربع وردات، مهما فتنتك براءتهم، وبادرتك ملامح الطفولة في وجوههم المبتسمة، ابتسامة تخبئ خلفها قلباً أبيض، لم تلونه الحوادث، لفرط نقائه، وبساطته، وإلا لكان فراق أبٍ مثل، صالح العزاز، رحمه الله، يفطر قلباً، ويُضيق صدراً.
لكن لطف الله الخفي، كان يظلل الشيهانة، وشهد، وشهلاء، وعبدالله، وليانا… حينما اختطف المرض صالحاً باتجاه رحيله، ولم يبقَ أحد لم يحزن على فقده!
كان صالح رجلاً، أشبه بمن يستيقظ كل فجر، ليمخر عباب الأحياء، ويسير في الأزقة، ليوزع الورود، ويغرس الشتلات، ويميط الأذى؛ الحسي عن الطريق، والمعنوي عن الناس.
يمنح بكرم وسخاء، كل من يواجه، ابتسامة حلوة، تفيض إيجابية وتشجيعاً، ابتسامةً تشبه شعاع شمسٍ، يظهر كبشرى لمن ضاق ذرعاً بظلمة تتلبسه، ولا يعرف كيف يتجاوزها!
لا أحد يعرف تحديداً، من أين كان صالح العزاز يأتي بما يوزعه كل يوم على الناس من الورود؟! تلك التي تكفي نصف سكان الرياض! ولكننا ندري، يقيناً، أن وروده كانت كلماتٍ طيبةً، وعباراتٍ فاتنةً مؤدبةً رشيقة، ولساناً طاهراً عذباً، وعدلاً مطلقاً في نشر المحبة بين الجميع. وكأن قلبه ميزانٌ يزيد الكيل لغيره ولا ينقصه.
الموزع الرئيسي للحب
لا أجد حرجاً في القول إن صالحاً كان الموزع الرئيسي، حتى لا أقول الحصري، للمحبة. ينثرها برسالة لصديق هنا، وشهادة صادقة، محفزة، لزميل عمل هناك، وتوجيه أبوي، تخاله حديث صديق، بلا أدوات أمر ونهي، وبامتلائه بأدوار القدوة الحسنة، وإيماءات الرسائل التي تؤتي أُكلها، دون أن تؤذي مُستقبِلها.
وحتى نعرف كيف كان موزعاً للحب، ففي الرابع من مايو (آيار) ٢٠٠٢، وبينما كان صالح في العيادة، في هيوستن، ينتظر دوره لتلقي جرعات العلاج الكيماوي، كتب على صفحة بيضاء، في آخر كتاب كان يقرأ فيه، كيف يرى الحب؟ فقال:
«الحبُّ، هو مفتاحي الخاص لفهم الأشياء.
الحبُّ، هو البوابة المؤدية إلى الحياة، التي أريدُ أن أحياها، وأكتبها، وأفهمها…
الحبُّ، هو المنظار، الذي أكتشف العالم من خلاله.
المحبةُ، هي القُدَّاس، الذي أقيمه لكي أجمع الناس عليه.
المحبةُ، هي القاموس، الذي به أُفسِّرُ الكلمات التي لا تُفسر».
بعد رحيل الرجل الصالح؛ العزار، رثاه الناس كما يُرثى الزعماء، مع أنهم لم يكونوا يرجون غير التعبير عن صدق المحبة، ولا كانوا يطمعون بإرث مادي، لعلمهم بإرثه الإنساني، إذ غرس قدوة جميلة بحُسن الخلق، وطيب السجايا، فأينع زرعه المحبة في كل مكان يكون، وفيض إنسانيته، الذي جعله من قلائل الشخصيات، التي تركت أثراً في كل من عرفها، فمن خصائصه، غفر الله له، أن أثره امتد إلى من لم يقابله، بمجموع الصدى الإنساني الإيجابي المتكاثر، عند الحديث عن الراحل المحبوب.
لم يرحل العزاز، وقد ملَّ مهمته، فقد كتب قبل رحيله: «ما أجمل أن تموت، وأنت ترغب في ازدياد. رائع أن تترك الحياة، وأنت تموت، حباً ورغبةً فيها. جميلٌ أن تقول للموت: أرجوك… تمهل قليلاً… ثم، إذا به… لا يسمعك».
اليوم، أنا متيقنٌ، أن صالحاً يبتسم في مرقده، وهو الذي قال لي يوماً، وأنا أزوره في مرضه، بهيوستن، متحدثاً عن فلسفة الموت والحياة، بلغة من يبحث في المصيبة عن وجه جميلٍ، يواصل به إيجابيته: «قد أكون أديتُ دوري في الحياة، كعازف ضمن فرقة أوركسترا موسيقية، أدى وصلة عزفه، وترك لغيره القيام بأدوارهم، ضمن السيمفونية»!
يبتسمُ، لأن الصغار الذين تركهم، ورحل، دون أن ترحل ذكراه العطرة، أصبحوا كباراً… وأن الرسائل، التي كان يكتبها لهم، أثمرت أطيب الثمر.
الشيهانة، أصبحت الأمين العام لمجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة، والمستشار القانوني للصندوق. شهد، مهندسة معمارية، عملت في إسبانيا، لدى مكتب هندسي عريق، ٧ سنوات، ثم انتقلت إلى الرياض، وأسست مكتبها الخاص منذ عامين. الشهلاء، مهندسة طيران، عملت في أمريكا، ثم عادت للوطن، لتعمل على توطين الصناعات العسكرية، في الهيئة العامة للصناعات العسكرية. وعبدالله، مهندسٌ، عمل في نيويورك ثلاثة أعوام في قطاع النفط والغاز، ثم انتقل لإكمال المسيرة في لندن، وله نصيب في التصوير والكتابة. وآخر العنقود، ليانا، تخرجت من الجامعة في نيويورك هذا العام، وتعمل مع إحدى شركات التقنية النيويوركية، وهي التي لم تتجاوز ٦ سنوات، يوم رحيل والدها.
هذه النجاحات، التي رعتها بكل جدٍّ، وعزمٍ، وشكيمةٍ، والدتهم، السيدة بدرية القبلان. لا زلت أذكر، كيف كانت تقف إلى جانب صالح في مرضه، تقود به السيارة، ذهاباً للعيادة ومجيئاً، وإذا تحدث، كانت هي ذاكرته التي يستند عليها، كما كانت عماد بيته، ورفيقة دربه، ومنبت التربية الحسنة لصغاره، الذين أصبحوا كباراً.
ضمن عنوانٍ خطَّه الراحل بيده، وهو: «أفكار الرجل المريض»، كتب مجدداً عن الحب، في العائلة هذه المرة، فقال:
«الحب، ليس شجرة صحراوية.
هو فسيلة، أو نبتة داخلية، تحتاج إلى الكثير من العناية والاهتمام والرعاية، لكي تنمو، وتكبر، فيصير لها ظلٌ، وثمر، فنرتاح في الظل، ونأكل من الثمر.
أي أنه لا يكفي أن تمتلك امرأة، بعقد شرعي، ولا يكفي أن تنجب أولاداً يأخذون اسمك، لكي يحبوك، لأنك الوالد… هكذا!
عليك أن تبادر بالدرس الأول، في الحب، والرعاية، والمنفعة.
عليك أن تأخذهم إلى الطفولة الرائعة، كي يكبروا في ظلال الزيزفون، لكي تكون أباً، يستحق كل ذلك الحب الوارد في الأساطير… أو قليلاً منه».
لم يكن الرجل المبتسم على الدوام، الذي يشيع المحبة في الأرجاء، مرتاحاً كل يوم، كما هي ابتسامته المريحة. أوصدت الدنيا أبواباً كثيرة، في وجه صالح، لكنه صالحها. كتب ذات رسالة لصديق يبثه هماً: «أشعر بتعبٍ داخليٍ، لا أحاول أن أتركه يتطاول على الآخرين»!
كم هي سامية هذه الجملة، وراقية، وتحمل في طياتها أخلاقاً تكتب فيها الصفحات والصفحات.
كيف كان هذا الرجل قادراً على لجم كل إحساس ألم، كي لا يسيء بألمه لغيره، ولا يضايق بتعبه أحداً سواه؟!
أَقَصَّرنا في حق العزاز؟
حين تراجع المقالات التي وصفت صالحاً، لا تستغرب، أن تطغى الزوايا الإنسانية فيها، على الشخصية الإبداعية، التي امتاز بها العزاز، كاتباً بليغاً، وصحافياً محترفاً، وفناناً فوتوغرافياً، ليس له ند.
ولهذا أسباب وجيهة؛ فقد كانت سماته الأبرز، اللطف، والأدب، والذوق الإنساني الرفيع، فصار كل من يكتب عنه، يتذكر هذه الصفات، في قالب ذكرياته الخاصة.
السبب الآخر؛ هو أن قصة رحيله في حد ذاتها؛ كانت بارزة، راقبها الوطن كله، فقد بارز العزاز الموت؛ وحاوره، قبل أن يصادقه، ونشر تجربته على الملأ، في مقالات في جريدة (الجزيرة)، و(الشرق الأوسط) وغيرها. عرف الناس، ممرضته كاثي، التي أهداها نسخة من المصحف، واسم طبيبه المعالج، فيليب سالم، وقرأوا له رسائل فلسفية، وعاطفية، وإنسانية، عظيمة، جعلتهم يشاركونه معركة المرض.
كانت سنوات حياته الأخيرة؛ ملتقى محبي الحياة. وكان موت صالح، فوق الموت، كرنفالاً من الحزن. انهمكنا فيه، فصرنا أُسارى لمشهدين: مشهد الصديق، ومشهد الفراق.
ولكنِّي سألت نفسي اليوم، من سيكتب عن العزاز الفنان، الصحافي، الفوتوغرافي؟ وماذا لو كان بين هذه النمطيات، التي نحكيها، شخصية أخرى لصالح؟! يومها نكون نحن أصدقاؤه ومحبوه، ظلمنا من لا يعرفه أو لم يلتقه، بأن أبقينا الكنز الإبداعي مدفوناً بعيداً عنهم، تحجبه طبقات الإنسانية الباذخة، وحكاياتنا الشخصية، على كل ما في هاتين الأخيرتين، من مغناطيس جذب، وعناصر تشويق.
وثَّق صالح، تجربته الإعلامية، في مقالة خصَّ بها جريدة (الجزيرة)، أثناء مرضه، لخَّصَ فيها رحلته في بلاط صاحبة الجلالة، واعتبرها: «أسطورة حب رفيع، فيها من المحبة والإبداع؛ أكثر من أي شيء آخر»، لُبُّها «التصرف تجاه الأفكار والآخرين، بإنسانيةٍ، وحبٍ، وإنصافٍ».
بدأ العزاز مشواره الصحافي، في مؤسسة (اليمامة)، فكتب وهو يافعٌ، عن الفن، وأثره في المجتمع، ولما طالع منتجه الأوَّل، شعر «كأن القمر قد صار نجماً أو وشماً في يده».
ثم انتقل، طالب المتوسطة، إلى جريدة (الجزيرة)؛ حيث جيل من العمالقة، يقودهم أستاذ الأجيال، خالد المالك، الذي يصفه العزاز، بأنه، «رئيس تحرير من فصيلة النخيل الأصيل، ومن حوله حديقة شاسعة أكثر ما فيها الظل والشجر المثمر».
عندما دخل صالح (الجزيرة) أول مرة، صادف أن التقى نائب الأستاذ المالك، الصحافي المختلف، فماذا حدث؟ وكيف كان اللقاء؟ يجيب: «هناك تعرفت وللمرة الأولى، إلى رجل غريب الأفكار والأطوار، وكأنه من سلاسة إغريقية معربة، أو هو نسخة من أوروبا اليونانية محرفة. مد لي يده واقفاً، قائلاً: أنا عثمان العمير. مددت له يدي الصغيرة، واجفاً بأصابعي الصغيرة المخبأة، قائلاً: أنا صالح العزاز، ابتسمنا وبدأنا نسير معاً. كأنها الآن ليلة البارحة. كنت أذهب إلى منزلي في المساء وهو يذهب إلى المريخ وزحل». أضاف العمير إلى العزاز؛ ما يضيفه للجميع «حب الحياة والتجربة والتنوع».
منحته التجربة الحرية، والثقة، إذ تعوَّد، المراهق – حينها – على أن يكون اسمه وصورته، عناوينه، على الصفحات الأوَّل، وتعلَّم أن لا يصيبه ذلك بالغرور، بل بالشغف، وصنع في داخله، الأفق اللا منتهي!
انتقل العزاز؛ إلى ثانوية الخبر، التي تقوم على البترول والسينما والتفرُّد؛ في مرحلةٍ يقول إنها: «أكثر فصول حياتي ازدهاراً بالحب والمعرفة»، تعرَّف على الكبير محمد العلي، وعلي الدميني، بحمولتهما الأدبية الثرية، وقال عنهما إنهما كانا «يشعلان مدفأتهما الثقافية، مرة بالنفط ومرة بالحطب، يسميانها المربد الثقافي»، وهي تجربة أضافت له ثقافة في «الشعر والقصة وكل أبواب الأدب». تولُّع صالح بالأدب، مع تلك التجربة، وغيرها، صنعه مثقفاً، يسري مع المتنبي، ويصبح مع جبران!
عرف صالح، في المحطة التالية، «جريدة اليوم»، وتمكن في تلك السن المبكرة، أن يأخذ مقعده بين الكبار، وقدم للجريدة الكثير من الإنجازات، من خلال موقعه مديراً للتحرير، ثم رئيساً للتحرير بالإنابة. أحبه مثقفو المنطقة الشرقية، وأحبهم.
ثم انتقل، إلى العاصمة، يقول: «هنا في الرياض، مع بداية عهد جديد وأحلام جديدة، وتجربة مختلفة، مجلة (اليمامة) غابة الوعول، والخيول، والأحصنة، وشمسٌ ومدفأة. كانت تجربة العمل في (اليمامة) مثل الدخول إلى قاعة احتفالات كبرى، كل يوم فيها حفلة عرس، أو حفلة طلاق».
في (اليمامة) ينضم العزاز إلى أسماء صارت رموزاً للعمل الإعلامي والثقافي والفكري. يصفهم برشاقة ومحبة، فيقول إن بينهم: «مندوب أهل القصيم، الصاخب جداً، والصحافي جداً، الزميل داود الشريان؛ الذي قرر أن يكون مندوب الضعفاء والمستضعفين، ضد الوزراء والبيروقراطيين، ومعه الزميل، إدريس الدريس، كان – وأعتقد لا يزال – يحبني وأحبه، وكأننا نشأنا معاً، وهناك ابن المقفع الصغير، علي العميم، الذي كنت ومازلت أعتقد أنه من أهم المشروعات السعودية؛ «المثقف الجديد» لكنه لم يأخذني بهذا الاعتقاد مأخذ الجد». هكذا كان، أزرق اليمامة، صالح العزاز، يرى فيها ما يحب، ولكنَّه يدرك أن ما بعد اللقاء سوى الفراق.
التجربة اللندنية
انتقل العزاز إلى مرحلة جديدة، إلى عاصمة الضباب، لرفقة عثمان العمير، الأستاذ، الصديق، الذي حدثني صالح عنه مراتٍ أثناء علاجه، ولم يرد ذكر عثمان في مقطع، دون أن تصحبه دمعة العزاز، محبةً له، وتقديراً لوقفاته مع صالح في حياته، وخلال مرضه. آنذاك، صار عثمان العمير رئيس تحرير مجلة (المجلة)، ونائبه، عبدالرحمن الراشد، أحد أصدقاء صالح الخُلَّص، وهو ممن يعترف له العزاز بوقفات مشرفة في أزماته. بعدها رأس العمير تحرير جريدة (الشرق الأوسط)، ورأس الراشد تحرير (المجلة)، ومعهما خاض مرحلة جديدة، ومشاريع مختلفة، قبل أن يطوي رحلة خدمة الصحافة والإعلام، أو التقليل من معاقرتها، ليقضي في مغامرةٍ ألطف، وفي رفقة عائلته التي يحبها وتحبه، فأنا مؤمن أنه لم يفارقها حين انطلق نحو «التصوير». فهو ظلَّ إلى آخر أيامه، يحلم بمشروع يمزج بينهما، «مجلة فنية، للإبداع البصري».
أدرك العزاز، أن العمل الصحافي، بات مرهقاً، معتبراً «راحة البال، أهم من أي مجد يمكن أن تحققه الصحافة». سألته عن سبب تركه الصحافة! أكد أنه اختار أن يمنح باله لأطفاله، فهم الاستثمار الحقيقي، وقال: «أنا مشغول بالشيهانة، والشهلاء، وشهد، ليس لدي أي طموحات أو تطلعات بعيدة عن حياتهن، هن الآن بوصلتي».
تعامَل صالح مع الصورة، والمقالة، والتحقيق، والقصيدة، بنفسٍ جمالي واحد. فهو يختار الزاوية الصحيحة، ثم يضبط باتجاه تلك الزاوية، إيقاع قلمه… أو عدسته. حدثني قبل سنة ونصف من وفاته، عن سر شغفه بالكاميرا، فقال: «وجدت في وسيلة التصوير، القدرة الأكثر على التمتع بجماليات الحياة، دون أية ضوضاء في اللحظة. تشابك الصورة مع المجتمع، أكثر براءة من تشابك النص المكتوب». ثمة ملمح مهم، لفت إليه بذكاء، قائلاً: «الوصاية على الصورة، أقل حدة منها على النص».
لا أستطيع رسم الحدود، التي يراها الآخرون بين الصحافي والفنان، فحينما اختار صالح أن يتناول قضية قيادة المرأة للسيارة، قدَّم «الصورة» الأبرز في تاريخها، تلك التي كلفته ثمناً باهظاً، أقلَّه كان الاحتجاز، وبعد عشر سنوات من الصورة والإيقاف، سألته عن تلك الصورة، فقال لي: «كنت وما زالت، أعتقد أن المجتمع بحاجة إلى اختصار في الوقت والجهد، للتخلص من المظاهر الاجتماعية، التي لا سند لها، كنت وما زلت، أعتقد أن هذه صورة من صور التعبير عن التخلف الحضاري والإنساني، مثلها مثل موقف المجتمع في يوم من الأيام حيال تعليم المرأة».
لكم تمنيت أن يرى العزاز هذا الخبر، بعد ثلاثين عاماً، من صورة كلفته فقدان الحرية لأشهر، فوعي القيادة الشابة المتوقدة، أدرك ما سبق، فقرر أن تقود المرأة السعودية – اليوم – السيارة.
وكم تمنيت أن أزف له في رسالة، ستطربه فرحاً، وأقول له: مثل نساء الدنيا، كلها، رفيقات الشيهانة يقدن السيارة في بلادك اليوم، ويقدن المؤسسات والشركات، بجدارتهن، وقد حصلن على حقوقهن الطبيعية، الإنسانية، بقرارات شجاعة من زعيم سعودي شاب، هو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي صار أيقونة إلهام لشباب وفتيات الوطن، الذين تتجاوز نسبتهم ٧٠%، وهو يخوض بثقتهم واحترافيتهم، تحديات، وإصلاحات، حولت البلد إلى ورش تفكير، ومعامل إبداع، سعياً لجعل وطنك الذي تحب يا صالح، في المقدمة، حيث لا يليق به مكان غيرها.
رسالة أخرى؛ وددت أن أرسلها إليه، أنَّ صناعة السينما في بلادنا اليوم، غدت يتنافس الشباب عليها، تلك الصناعة التي كان كلُّ أصدقاء العزاز يرونها حلماً، بعيد المنال وضرباً من اللا واقعية. كان صالح، يقول لي: «كنت أحلم بأن أكون مخرجاً سينمائياً، وليتني فعلت، لأنني اكتشفت الآن، أنه في هذا الإطار، يمكن أن أخدم رسالة بلدي وديني أفضل ألف مرة!».
مُحِبُّ الوطن.. حتى النخاع
كان صالح، وطنياً من طراز رفيع، يمسك بخيط رقيق، يجعله يفرق جيداً، بين الدعوة للإصلاح، وتبني معارضة تدعو إلى الهدم. كان مسكوناً بالوطن وعاشقاً له، كما هو، لا كما يتمناه الآخرون!
أحب صالح الوطن، محبة العربي لقبيلته، وناقته، وسماء باديته. يقول العزاز دوماً: «أنا بدوي من الصحراء، أنا ابن ظلال النخيل».
يقول أيضاً، بلغته الشاعرية: «كانت أجمل اللحظات وأكثرها تأثيراً في نفسي وحياتي، تكمن في تلك اللحظات التي أكون فيها مع نفسي، في المشهد الصحراوي بلا حدود، ذلك المشهد الذي لا يُرى بالعين فقط، بل بالقلب، المشهد الذي ألهمني وأغراني في تجربة التصوير الفوتوغرافي، إلى حد الجنون أحياناً».
قال لي أيضاً: «لقد قررت أن أحب هذا الوطن، الجغرافيا، والتاريخ، مثلما فعل الملك الموحد، جلالة الملك عبدالعزيز؛ أجل نحن الحجاز ونحن نجد، ومن أقصى الشمال إلى الجنوب، لم أتوقف عند أية حدود، فحدودي هي المملكة».
في العام 1996، اختار شاعر الضوء والرمال، أنَّ يكون معرضه عن الصحراء في الرياض.
وفي عام 1997، فاز العزاز، في الصين، بالمركز الثاني، في المسابقة العالمية لاتحاد المصورين العالمي، بصورة تمثل الوطن؛ يرى أنها تُفجِّر عهداً جديداً مع الإنسانية.
بهذا الأفق، تفهم فلسفة العزاز. للرمال عنده معنى؛ وللجبال رمز. السماء الزرقاء، تقوده إلى مساحات المستحيل، الممكن. والطين، عنده، هو مادة الخلق، ودلالة التراث، والأصالة، والتاريخ. أما الإبل، فقد أدرك صالح جيداً، قصة العشق بينها وبين إنسان العربي، منذ الأزل، ولم يبقَ محافظاً على وصال هذا العشق مثل ابن وطن صالح؟
بهذا أفهم كتابه الأول الذي نشره مع حمد العبدلي؛ (الجنادرية الحدث)، والثاني الذي وثق تجربة بناء الطين؛ (العودة إلى الأرض).
أما كتابه الأخير، دون نهاية، (المستحيل الأزرق)، فهو قصة أخرى، وعالم ثانٍ، إذ كانت الصورة قصيدة، وتعليق صالح عليها بيت شعر، بالإضافة لصورة النصوص الشعرية التي كتبها صديقه الشاعر البحريني قاسم حداد. اللغات الثلاث التي حملها الكتاب، العربية، والإنجليزية، والفرنسية، كانت جواز السفر، الذي حمل العزاز به المستحيل، الممكن، بكل فخر، ليطوف به الدنيا.
سافر لأمريكا، ليهديه لمتحف الفن الحديث، في رحلة بدأت بهم نشر جمال الوطن، وانتهت بهم أصاب الوطن، عندما أصيب بمرض صالح، وإصابته بـ«عش العنكبوت».
يحكي أستاذ النقد الأدبي الدكتور سعد البازعي أن العزاز، أخبره في سفره الأخير، أنه أراد أن يلتقط صورة، لامرأة سعودية، ترتدي بعباءتها السوداء، فوق ثلوج ألاسكا البيضاء، وكان يراها صورة مبتكرة، مقابلة لكثبان الرمال.
حلمٌ جميل، لم يمهله المرض لتحقيقه، ولو تحقق، فربما تفتح الباب لمشروع «مستحيل» آخر، يصبح ممكناً. فالمستحيل، يبدأ بفكرة، وفي اللحظة التي نحوله إلى صورة: يحصل بها فوراً على شهادة عضويته في عالم الممكن جداً!
موعد الغياب.. الحضور!
في الخامس عشر من ديسمبر (كانون الأول)، 2002، كان الموعدُ الذي يشبه ثنائيات صالح المحببة: الضوء والظل، المستحيل والممكن، الأبيض والأسود، الانفتاح والأصالة. كان موعد الغياب والحضور! رحل صالح إلى السماء، وفاضت روحه في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وحضر صالح في قلوب الآلاف، حضوراً لا يغيبه الموت، بقدر ما يؤكده، بجميل الذكرى، ولواعج الأشواق.
رحم الله صالح العزاز، في كل الفصول، لا أذكره إلا وهو يبتسم ويقول: لا أعرف أرضاً تُصَوَّر بجمال التعبير القرآني الفريد: «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَة فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِ زَوْجٍ بَهِيجٍ» مثل نجد العذية، بعد أن تعلن سعادتها الباذخة بالمطر، الذي يحولها من صحراء قاحلة، إلى بستان زهور مبهج!
هي، الراقي، الحياة كلها، وهو وآخر كل شيء في أرض وطننا إذ يفعل السحر عندما يحول الرمال الشهباء فتصبحَ مثل خد فتاة جميلة يحمر وجهها خجلاً وجمالاً الأرض الجدباء الذي تتراقص فرحاً بجماله الإبل، ويشعر الإنسان بالرخاء والاعتزاز، وهو ذات الشعور الذي يغشانا عندما ترتفع راياتنا الخضراء خفاقة في سماء المجد.
الماءُ الذي يُطلق أثراً، يودع، ويستقبل ضيفاً، معتبراً الفضل للضيف. فصيفاً، واحتفينا، يصنع تقديره، ويُنبت مشاعر اشتياقه، أما صالح، فما أجمل ما وصف الشاعر يوسف أبو اللوزلة، بقوله: «عين الكاميرا.. قل عين صالح؛ تلتقط الروح الشعرية في زهور الصحراء. يرسم خطاً من الصور من القصيم إلى الرياض. يحوِّل الفوتوغراف إلى شعر، هادئ وجميل، وكلما حاول الشاعر، أن يولد من أصابعه يعيده إلى مخبئه ومكمنه. لم يكتب صالح العزاز الشعر، ولكنه كان من أجمل الشعراء. لم يكن ماركيز أو هيكل ولكنه كان من أجمل الصحفيين، ولم يكن من أكبر المصورين، ولكنه أجملهم»!
أرى صالح، دائماً، يلوِّح بابتسامته، ويغرد بعبارته الأخَّاذة: إلى اللقاء يا أصدقاء!
فأرد على أبي الشيهانة، قائلاً:
عليكَ سلامُ الله وقفاً فإنني
رأيتُ الكريمَ الحُرَّ، ليسَ لهُ عُمْرُ!
جميع الحقوق محفوظة 2019