تعتبر السير الذاتية خزاناً ضخماً للتجارب الكبرى، في العلم والإدارة والسياسة، وكل مجالات الحياة!
المذكرات هي أثر الإنسان بعد رحيله، بها يوثق محطات من حياته. بمجال الإدارة ثمة مدارس في كتابة الذكريات، أضرب مثلاً بنموذجين إداريين كبيرين، غازي القصيبي (1940-2010)، وعبد العزيز الخويطر (1918-2014)، رجلان خدما السعودية خدمات جلّى، بما يجعلهما من أشهر الوزراء السعوديين.
غازي كتب عن تجربته بكتابه: (حياة في الإدارة)، وكان ينوي الاستمرار بكتب أخرى توثق المسيرة، لكن الأجل لم يمهله. حين كتب سيرته، ذكر بمقدمة الكتاب قصة والده عبد الرحمن القصيبي، الذي لم يكتب مذكراته.
غازي قرر أن يقول ما يمكن قوله، وما لا يمكن الحديث عنه هو الأكثر، مقتنعاً أن الأسرار تفقد سرّيتها بالتقادم الزمني، وتصبح كلاماً يمكن إشاعته، وتداوله بين الناس.
بينما عبد العزيز الخويطر، كان من مدرسة أخرى، تغلب جانب الحذر، ولا ترى في القول عن الذكريات الإدارية مطلباً مهماً من مطالب الكتابة لديه. لقد رحل، وبجعبته كنوز من الأحداث، والذكريات، والتجارب، التي تستحق التوثيق والكتابة، لكنه لم يفعل، وخسرنا تجربة فريدة، كانت ستثري الحياة الإدارية.
ومن جيل أولئك، محمد عبده يماني (1940-2010)، كتب مذكراته بعنوان: (أيامي)، وهشام ناظر (1932-2015)، سعدت أن أكون كاتب روايته وذكرياته بـ (هشام ناظر-سيرة لم تروَ)، وعلي النعيمي (1935- )، طبع مذكراته بعنوان: (من البادية إلى عالم النفط).
البعض الآخر كُتبت سيرهم الذاتية من خلال التتبع البحثي، كما هو منهج الأستاذ محمد السيف في كتب مثل: (عبد الله الطريقي، صخور النفط ورمال السياسة)، و(ناصر المنقور، أشواك السياسة، وغربة السفارة). لكن بالتأكيد أن ما يكتبه الإنسان بنفسه، سيكون ثرياً، باعتبار مستوى الأسرار والحكايا التي تروى لأول مرة.
لحسن الحظ، أن المذكرات الكبرى تلقى عناية رسمية واجتماعية، كتاب غازي القصيبي قُرر ببعض مناهج كليات الإدارة، وسبب غنى الكتاب، احتواؤه على قواعد ودروس، وشذرات، وأفكار حول الإدارة، لن توجد بالكتب الأكاديمية التقعيدية، والمؤلفات المدرسية المفصّلة المملة أحياناً، بل جمع بين النص الأدبي المُثري للغة، والقوة الفكرية للكاتب، والغنى الإداري، بوصف الدروس لم تكتسب من الكتب والمراجع، بل من احتكاك الإنسان بالشارع والواقع.
دروس محضها عرق الجبين، والأسفار، والتعامل مع الملوك والوزراء وأولياء العهود، كل ذلك جعل الكتاب مرجعاً ناجحاً، ومقرراً أساسياً ببعض كليات الإدارة. قل مثل ذلك عن بقية المذكرات الأخرى، لا يجد الجيل الشاب بها ما يشدّ من عضده، وما يمنحه الطاقة حين الشعور بالاسترخاء، أو الملل، أو ربما الإحباط بمرحلة يقلّ فيها المشجعون، ويكثر بها المثبطون.
قل مثل ذلك عن سيرة المبدعين، مثل كتاب فريدريك نيتشه (1844-1900)، عن نفسه: (هذا هو الإنسان)، وكتاب بول ريكور (1913-2005): (بعد طول تأمل)، وكتاب أومبرتو إكو (1932-2016): (سيرة روائي ناشئ)، ومذكرات الموسيقار تشايكوفيسكي (1840-1893)، وسيرة عباس محمود العقاد (1889-1964): (أنا)، و(الأيام) لطه حسين (1889-1973)، بالإضافة إلى الحوارات التي يتم جمعها للمبدعين، مثل كتاب: (نوابغ) من جزأين، ضم سجالات، ونقاشات مع فلاسفة، وفنانين، ومثقفين.
صقل التجارب، وصناعة التراكم لدى القارئ، والمتعلم، والباحث من الجيل الشاب، غاية، فالأخطاء التي ترتكب في معظمها، سببها انعدام فهم تجارب الآخرين، وغالباً تكون الكوارث مما يشبه وقع الحافر على الحافر، لكن بحال اهتم القارئ بحصة محددة، للمذكرات، والسير، والحوارات بكل المجالات من الإدارة، وصولاً إلى الثقافة، فإن التجربة تصبح أكثر ثراءً وغنى، وما التجربة الناجحة إلا مجموعة إدراك لأخطاء الغير، أو تجنب أخطائنا نحن الماضية… تلك هي مسيرة النجاح.
أولئك الكبار، نتغذى من تاريخهم، ومن حياتهم، من الدنيا التي عركتهم، حتى خلدهم التاريخ، ولا عجب، فإن «العظماء… لا يموتون»!