لا أحسب أن مدينة في أرجاء المعمورة كلها تمثل العالم الآن كالعاصمة البريطانية، لندن…
يحق للندن أن تكون العالم في مدينة واحدة. سكان هذه المدينة العظيمة وفقاً لآخر إحصاء لسكان بريطانيا في عام 2001 يبلغ 7.172 مليون نسمة، وأربع سنوات ترشح العدد للصعود بطبيعة الحال. يشكل عدد الإنجليز البيض في لندن 4.28 مليون نسمة، وهو ما يشكل 59.8 % فيما يمثل الباقون أصقاع المعمورة. ويأتي الدين الإسلامي في المرتبة الثانية بعد المسيحية في لندن، بواقع أكثر من 607 آلاف مسلم وهو ما يشكل 8.5% من السكان، فيما تأتي اليهودية رابعة، بعد الهندوسية، وللأخيرة 4.1% من السكان، ولليهودية 2.1% بواقع نحو 150 ألف نسمة.
فيما جاء 15.8% تحت مظلة من لا يدينون بدين محدد، بواقع 1.130 مليون نسمة!
ويوجد في لندن أكثر من مئة أقلية عرقية، ويتكلم أهلها مئات اللغات الحية والفرعية، وهو ما جعلها عاصمة الثقافات المختلفة عبر الأرض.
الأحد الماضي كنت في ركن المتكلمين في الهايد بارك رفقة ابني عبدالله، ولاحظت أن أحاديث المتكلمين انصبت هذه المرة على صراع الحضارات من وخلافات الأديان، بعيداً عن السياسة التي كانت طاغية في آخر زيارة لي إلى المكان قبل بضع سنوات!
وقف مسيحي متطرف على صهوة كرسيه وأخذ ينتقد الإسلام والمسلمين بضراوة، والتف حوله العشرات، وكان لافتاً لي أن الذي أخذ يناقشه بحماسة وندية، ويسخر منه بانتظام، لم يكن مسلماً بل بريطانياً أبيض. سألته بعد الكلمة عن ديانته؟ فأخبرني أنه مسيحي، لكنه يؤمن “بأن من حق المسلمين أن يعيشوا على هذه الأرض، متساوين مع غيرهم في الحقوق، إذ أن التطرف يولد تطرفاً بالاتجاه الآخر!”.
في الجهة الأخرى انتصب رجل أسود وضع علم إسرائيل في جيب قميصه العلوي، وبشّر بدنو ظهور المسيح عليه السلام من جديد، قائلاً بأن “عودته ستنتصر للمؤمنين من المسيحيين واليهود، وستحمي إسرائيل من الدول العربية والإسلامية التي تتربص بها الدوائر”.
وبينما كان المتحدث منفعلاً في إيصال صوته الذي يكسوه تعب الفكرة وعيُّ الفصاحة، قال له إنجليزي أبيض: “أنا لا أؤمن بالمسيح، بل أؤمن بهاري بوتر!”، في إشارة إلى شخصية الطفل البريطاني الذي يحتل بطولة روايات شهيرة تحول معظمها إلى أفلام سينما وحققت مبيعات خيالية في بريطانيا وخارجها، فانفجر الحضور ضحكاً!
كان هاري بوتر، الصلة الوحيدة، لطفلي ذي التسعة أعوام بأفكار المكان، وهو تحمس مرة للرد على من تساءل من منصته عن مصدر القرآن بسخرية، فقال له بالإنجليزية: إنه من الله أيها التافه!
ولم ترق الأفكار المتلاطمة للصغير، فقال لي بعد أقل من نصف ساعة في المكان الذي دلف إليه للمرة الأولى بعد أن أصبح يميز الأشياء: “هل تصدق يا أبتاه بأن جدي الذي يوشك أن يبلغ الستين من عمره، لم يمل الحياة، وقد مللتها من تسعة أعوام أو أقل!”.
كان الحديث لي مفاجأة حقيقةً، وتساءلت على الفور: لماذا؟! فأجاب بلغته: “الصخب يعلو في كل مكان، والخلافات تتفاقم في الأرجاء. هل من وسيلة لنجعلهم يتفقون؟!”. وقبل أن أجيب، وفيما كنت سادراً في صمتي، قذف إليَّ بعبارة ألجمتني سكوتاً بقوله: “أعتقد أننا بحاجة إلى ساحر، مثل هاري بوتر”!.
جميع الحقوق محفوظة 2019