انشغل الناس خلال الأيام القليلة الماضية بمسألة “التحيز”، وانهمكوا في التحدث عن القنوات التي تحيزت، والقنوات التي ظن البعض أنها التزمت الحياد. مع أن لديّ حساسية من كلمة “حياد” لأنها كلمة نسبية، وما نراه محايداً، يراه غيرنا متطرفاً، ولذلك يمكنني أن أضم الحياد للغول والعنقاء والخل الوفي، في قائمة المستحيلات. كان “فيرجال”الصحفي في BBC ، يقول: “الالتزام الأساسي للصحفي هو تقديم الحقيقة”. الصحفي يؤرخ الحدث اليومي، وهو كاتب التاريخ اليومي، والمؤرخ للحدث. الصحافي الأميركي “جيمس ريستون” يعقب على علاقة الصحفي بالخبر والحقيقة قائلاً:”الأخبار يمكن أن تكون صادقةً، ولكنها ليست هي الحقيقة ذاتها، ونادراً ما ينظر إليها الصحفيون والمسؤولون من نفس الزاوية”. ليست كل الحقائق أخباراً، ولا كل الأخبار حقائق. رجعت إلى كتاب: “ثقافة الأخبار”، لـ ستيوارت آلان، خص فصلاً عن الأخبار بعنوان: “صناعة الأخبار: الحقيقة والأيديولوجية، والعمل الصحافي”، يقول فيه:”يجب على المراسل الصحفي أن يحتفي في عمله بالحقيقة أكثر من أي شيءٍ آخر، إن السبب الذي يجعل ملايين الناس يشاهدوننا، ويستمعون إلينا هو أننا نهتم بالحقيقة، أكثر من أي شيءٍ آخر، والثقة هي شعارنا، وهي المبدأ الذي لا يمكن تغييره، إنها تراثنا ورسالتنا، وأنا أفضل أن أعمل كناساً في شوارع لندن، ولا أتنازل عن هذا المبدأ. إن الالتزام الأساسي للمراسل الصحفي هو نقل الحقيقة وإذا حاولنا المساس بهذا المبدأ، لأي سبب، فسوف نصبح مجرد عملاء لدى البوليس السري”. كانت أحداث تونس ومصر بوابة الدخول نحو نقاش طويل عريض حول الموضوعية والحياد الإعلامي، مداخلات المشاهدين لدى كل قنوات تمنحها قصائد مدحٍ طويلة على الموضوعية والحياد الذي تتمتع به القناة، وكل جمهورٍ بقناته معجب، ناقم على منافساتها، لكن الذي يمكن أن نخرج به من خلال تلك التغطيات أن الإعلام لم يعد مراسلين وقناة ومجموعة من المحللين، بل صار صناعة، والأخبار التي تنقلها القنوات في كل لحظة تعكس الرؤية العامة للقناة. بعض القنوات تركز على الصورة لا الحدث، وأخرى تركز على المشاهد السوداوية، وقنواتٍ أخرى اختارت أن تتعامل مع حدث مصر خاصةً من بعيد بحيث تسلط الضوء تارةً وتسحبه تاراتٍ أخرى. ليست هناك قناة معصومة من الخطأ، والأخطاء اليومية العادية تحتمل، على عكس الأخطاء التي تعصف بمنهج القناة وتضعها في حالة استغلال للمشاهدين وتهييجٍ لهم، ستيوارت آلان ينبه في كتابه إلى هذا العيب حين يقول:”إن الخلط بين الأخبار والدعاية (البروباجندا) لا يوجد له ما يدعمه، فوكيل الدعاية على العكس من الصحفي في الظروف العادية على الأقل، يبدأ عمله وهو ينوي خداع الجماهير عمداً، ويقصد إخفاء الحقيقة لكي يواجه الرأي العام بطريقةٍ معينة وباستخدام أساليب ووسائل واستراتيجيات الخداع والاستغلال”. الإعلام الذي لا انتماء له مستحيل الوجود، كل قناة تأخذها موجات فكرية من يمينٍ أو يسار، وبعض القنوات أخذت خطاً ليبرالياً وأخرى لديها أيديولوجيا “يمينية” في مكانٍ ما، لكن الاستغلال الذي يقصده “آلان” ليس الانتماء، بل هو التهييج والتطبيل الأجوف والمبالغة في تصعيد الأحداث وضخها والرغبة الشديدة في الإلحاح على المشاهدين لإقناعهم برأيٍ من الآراء، أو فكرةٍ من الأفكار معتمدين على أهم خاصية من خصائص الإعلام والتحليل والأخبار وأعني بها “تنوع الآراء وتعدديتها”. إذن هذا العيب الفادح للأسف وقع فيه بعض الإعلاميين، ربما مع الحماس أخذتهم النوايا الحسنة بعيداً عن الأطر المهنية، والموجات التي عصفت بالمنطقة ليست قليلة. من حق الكاتب أو المفكر أو المثقف أن يتخذ رأياً، ومن حق الصحافي أن يكون له رأي، لكن من حق المشاهدين أن لا يكونوا أسرى لرأي ذلك الصحافي، وأن لا يفرضه عليهم وهو يقرأ الخبر … هذه هي المشكلة الرئيسية … لا تزال الأحداث عاصفة فلنشاهد، ولنرى كيف نقرأ الملاحظات الماضية… ربما نجد ملاحظاتٍ أخرى… ربما!
جميع الحقوق محفوظة 2019