المرحلة التاريخية التي تأسس فيها “مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني” كانت مفصلية في تاريخ السجال الفكري في السعودية. يكفي المركز أنه استوعب المختلفين، الذين كانوا ـ منذ الثمانينات ـ يتساجلون من خلال الأشرطة، والمحاضرات، والصحف، والمجلات، إلى أن ساهم المركز بجمع شتاتهم، حيث اكتشف المتخاصمون أن الذين كانوا يخالفونهم ليسوا بشياطين، بل هم بشر ممن خلق. جمع المؤتمر أسماءً كنا نظنّ بعد ذلك الردح أنهم لا يلتقون حتى يلج الجمل في سمّ الخياط. كانت تلك القيمة الرئيسية لمركز الحوار الوطني، وهو المشروع المدني الأهم في نظري من بين المشاريع الثقافية التي عاصرناها خلال العقد الماضي.
لكن هذا لا يعني أن المركز بقي مؤثراً كما بدأ، بل يمكن القول إن كآبة الروتين، والانسحاب من الموضوعات ذات الجدل الساخن، والانغماس في مواضيع الخدمات العادية السهلة بدلاً من الموضوعات ذات السجال الفكري الساخن، كل تلك العوامل ساهمت في إضعاف حضوره، حيث بدأ في مسارٍ فكري لجمع المختلفين، وانتهى إلى مؤسسة ثقافية عامة تعنى بالحوار الوطني الخدماتي أكثر من الحوار الوطني الفكري السجالي.
الدكتور عبدالله نصيف –عضو اللجنة الرئاسية للمركز- لم يخف هذا التحول وهو يقول: “أريد أن أوضح مسألة مهمة في البداية، فالحوار بشكل عام ينفتح على كل القضايا، سواء فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو خدمية، والحوار الوطني الذي انطلق منذ عام 1424 أسهم في نقاش مختلف القضايا التي تهم المجتمع السعودي بمختلف شرائحه، وقد كانت المسائل الفكرية هي المطروحة في السياق العام، حيث كانت هذه المسائل هي الأكثر إلحاحاً لدى النخب ولدى المجتمع السعودي بوجه عام … وبناءً على اقتراحات ومطالبات المشاركين والمشاركات في اللقاءات الوطنية، وتحقيقاً لتصورات شرائح متعددة في مجتمعنا السعودي؛ آثر مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني أن يوازي بين الحوار الفكري النظري، ومناقشة بعض القضايا الحيوية التي تهم المواطنين والمواطنات، وتمس الواقع بشكل مباشر، كالتعليم والعمل والخدمات الصحية”!
قال أبو عبدالله غفر الله له: بمعنىً آخر فإن المركز بدأ يناقش قضايا ذات مساس بـ”الخدمات” وأحسبُ أن مثل هذه النقاشات ليست بين المواطنين أنفسهم، بل هي بين المواطنين والمسؤولين، وهذه مهمة أعضاء مجلس الشورى، وليست جزءاً من الحوار الوطني الذي فهمنا على أساسه تأسيس المركز، فأتمنى أن يترك المركز القضايا الخدماتية للمؤسسات التي تمثل المجتمع أمام الحكومة، حتى وإن كان تمثيلاً بـ”التعيين” مثل مجلس الشورى، وأن يخصص المركز عمله للحوار بين المختلفين في الأفكار بعيداً عن قضايا “الخدمات”!