في ليلة شتوية، تسامرتُ مع صديقٍ؛ حول التُراث والثقافة والآثار؛ تاريخها، وصمودها على مر الأزمان، فكانَ أنْ حَلَّى مجلسنا، سِفرٌ عظيم؛ أصدره مركز الملك عبد العزيز الثّقافي العالمي (إثراء)، يُقدّم معلقات الشعر العربي لجيل الألفية، في حُلّةٍ بهيّة، ولغةٍ سلسة، وترجمةٍ إنجليزية لطيفة، وطباعة قشيبة. وبينما أنا أكتب هذه المقالة، إذا بمجلس الوزراء السعودي يعلن هذا العام عاماً للشعر العربي، في انتصار لديوان العرب، وبعدها بأيام تملأ المشهد الأدبي والثقافي والفني مسرحية شعرية غنائية تعرض بالرياض تزامناً مع يوم التأسيس، عنوانها: «معلقاتنا امتداد أمجاد»، وفيها يطرح الأمير الشاعر المبدع عبد الرحمن بن مساعد، المشرف على هذا العمل، رؤية تؤرخ للمعلقات العشر، ثم يجاري عشرة من شعراء السعودية المعاصرين كلَّ معلقة بقصيدة تحكي تاريخ ثلاثة قرون من التاريخ، منذ تأسيس السعودية، حتى يومنا هذا.
كتاب «إثراء» الجميل؛ «المعلقات لجيل الألفية»، رافقت فيه الأبيات وشروحها وترجماتها نقوش، كانت دليلاً على اتّساع الذائقة الجماليّة وتنوّع التجربة الحضاريّة للسعودية، لكنّ ما تعلّق بداخل حدود الصّفحات وفي متْنها، هو الكنز الآسر، الذي حاول «إثراء» أنْ يُزيل عنه الغبار، ويقدّمه لجيل الألفيّة، بعد فكّ رموزه، ليتزوّد شباب هذا الجيل من تاريخ أيّام العرب زادَ مروءة أجداده، ويتشرّب عمق ثقافة أسلافه، وتنوّع مصادرها؛ علَّهُ يستأنف عظمتها الباقية والممتدة، ويصنع معلّقاته الخاصة، كما فعل شعراء المسرحية الملهمة: «معلقاتنا امتداد أمجاد»!
والمعلّقات قصائد ومآثر وقيم وآداب عُني العرب بها، وهي دُرَرُ قصائد الشعر العربي، التي بلغ من الإجماع على تفردها ما قيل إنها كتبت بماء الذهب وعُلِّقت على جدران الكعبة، وعَلقَت في ذاكرة العرب، وكانت زاداً للمكارم، وينبوعاً للشعر، فتناقلها الرّواة، مستعرضين جمال مبناها ومعناها. واختُلف في عددها بين سبع وعشر، واختار كتاب «إثراء» أن يتمها عشراً، واعتبرها «من روائع الأدب العربي والعالمي، والجذور الخالدة لإبداع الشعر العربي»، وهي «مادة أصيلة بقيت قروناً شاهدةً على سليقة ومَلَكَة الإنسان اللّغويّة، وقدرته على تطويعها وتشكيلها، والتعبير عن ذاته من خلالها». وتجنّب الكتاب وصف المعلقات بالشعر الجاهليّ، واستبدل به «ما قبل الإسلام»؛ فكتبها بالإنجليزيّة: pre-islamic Arabic Golden Odes، وهو صواب محض، فقد كانت العرب تقول مُذَهَّبَة امرئ القيس، ومُذَهَّبَة زهير، وهكذا. وهو اختبار وجيه، وإن كان العرب، وصفوا شعر ما قبل الإسلام؛ بالجاهلي، فيبدو أن الحمولة السلبية، للكلمة، خصوصاً عند جمهور الكتاب، دفعت بهذا الاستبدال المستحسن.
يَسَّرت لغة الشرح الحديثة، على المتلقِّي، المبتدئ – سواء كان من جيل الألفية أو ممن سبقهم – كثيراً من المعاني، ولكن ما أضافته الترجمة إلى المتمرسين، كان أكثر. فمحاولة نقل معنى القصيدة من العربية إلى الإنجليزية، بالقدر الذي يُتعِب المُترجم، تفتح نافذةً جديدة للنّص، وتجعله يتنفس في جسد مختلف، عبر رئة حديثة، وهي تجربة أَحسَبُها توسّع خيالات التّذوق، وتبعث حياة أخرى في القصيدة.
في مسار «إثراء»، تحوّلت كلّ معلّقة إلى ما يشبه الفيديوهات القصيرة المقطّعة في مددها، والموحَّدة في مشهديتها وإخراجها، فقُسّمت المعلقات على لوحاتٍ، فامرؤ القيس هو «الملك الضلّيل»، تنقسم لوحات معلّقته إلى أربع، تبدأ بالمشهد الطّللي الأشهر، وندب الصحاب إلى البكاء «على ذكرى حبيب» ومنزله، ثم في اللوحة الثانية تنسرد الذكريات الغزليّة على أحبّةٍ؛ ينتشي النص بمغامرات البطل معهن، وحواراته المشاغبة التي تحلّي القصّة، إذ يتسلل إلى «خبائهن» مدلّلاً مكانته وحظوته، ومباهياً بحسن أيامه، التي يقطعها ليل الهموم الطويل، كأنّه مربوط إلى جبل، مشبهاً الدابة الجاثمة طويلة العنق، وما أن يأمر دابته «انْجلِ»، حتى يبزغ فصل الصيد في لوحةٍ يغتدي فيها بطلنا؛ والطّير في وكناتها، أي باكراً، ويمتطي خيلاً أسطوريّاً هو «قيد الأوابد»، ومدرك البعيدات، ويترصد الشارح للصور المتحركة، حتى يسكن في مقعد امرئ القيس في المشهد الأخير، وهو يندب صاحبه هذه المرّة إلى تأمّل البرق، الذي يأتيه بأمطار تغطي مناطق متعدّدة، ويصير فيه الجبل والماء ينسدل حوله، كالشيخ الكبير المدثّر بثوب مخطط الأطراف، ولا يُبقي السيل بيتاً إلا طرحه، إلا البيت المشيد بجندل!
كأنّ المعلّقة تقول، إنّ من أراد البقاء فليبنِ مجده ويحفره بنقوش، ليغدو كالرسوم التي تظهر وإن تقادم الزمان، بكل رونقها، كما يقول لبيد العامري، في معلقته:
وجَلا السُّيولُ عن الطّلُولِ كأنّها
زبرٌ تجِدُّ متونَها أقْلامُها
يقول الأمير عبد الرحمن بن مساعد، وقد صدق: لا أحد يستطيع أن ينسب المعلقات إليه، إلا السعودية، مشيراً إلى أن شعراءها وثقوا معالم المملكة بتفصيل. ويقول العبد الفقير إلى الله: لقد صنع شعراء المعلقات، أول أطلس مكتوب في التاريخ.
شكراً لـ«إثراء»، ولوزارة الثقافة، وللأمير عبد الرحمن بن مساعد، وفرق العمل التي تحتفي بديوان العرب، وثبت أيامهم، ومجمع أخلاقهم ومكارمهم، ففي ذلك إثراء للأجيال، وإحياء للأمجاد، وغرس لفنون تملأ الروح، وترتقي بالذائقة.